رحمة بالعباد، وعناية بهم، وليقوم بذلك من مصالحهم ما يقوم، وليعرفوا عدد السنين والحساب. * (والنجم والشجر يسجدان) *، أي: نجوم السماء، وأشجار الأرض، تعرف ربها وتسجد له، وتطيع وتخضع، تنقاد لما سخرها له من مصالح عباده ومنافعهم. * (والسماء رفعها) * سقفها للمخلوقات الأرضية. * (ووضع الميزان) *، أي: العدل بين العباد، في الأقوال والأفعال، وليس المراد به الميزان المعروف وحده، بل هو كما ذكرنا، يدخل فيه الميزان المعروف، والمكيال الذي به تكال الأشياء والمقادير، والمساحات التي تضبط بها المجهولات، والحقائق التي يفصل بها بين المخلوقات، ويقام بها العدل بينهم، ولهذا قال: * (ألا تطغوا في الميزان) *، أي: أنزل الله الميزان، لئلا تتجاوزوا الحد في الحقوق والأمور، فإن الأمر لو كان يرجع إلى عقولكم وآرائكم، لحصل من الخلل ما الله به عليم، ولفسدت السماوات والأرض ومن فيهن. * (وأقيموا الوزن بالقسط) *، أي: اجعلوه قائما بالعدل، الذي تصل إليه مقدرتكم وإمكانكم. * (والأرض وضعها) * الله على ما كانت عليه من الكثافة والاستقرار واختلاف أوصافها وأحوالها * (للأنام) *، أي: للخلق، لكي يستقروا عليها، وتكون لهم مهادا، وفراشا يبنون بها، ويحرثون ويغرسون، ويحفرون، ويسلكون سبلها فجاجا، وينتفعون بمعادنها، وجميع ما فيها، مما تدعو إليه حاجتهم بل ضرورتهم. ثم ذكر ما فيها من الأقوات الضرورية، فقال: * (فيها فاكهة) * وهي جميع الأشجار التي تثمر الثمرات التي يتفكه بها العباد، من العنب، والتين، والرمان، والتفاح، وغير ذلك. * (والنخل ذات الأكمام) *، أي: ذات الوعاء الذي ينفلق عن القنوان التي تخرج شيئا فشيئا حتى تتم، فتكون قوتا يدخر ويؤكل، ويتزود منه المقيم والمسافر، وفاكهة لذيدة من أحسن الفواكه. * (والحب ذو العصف) *، أي: ذو الساق الذي يداس، فينتفع بتبنه للأنعام وغيرها، ويدخل في ذلك حب البر، والشعير، والذرة، والأرز، والدخن وغير ذلك. * (والريحان) * يحتمل أن المراد به جميع الأرزاق التي يأكلها الآدميون، فيكون هذا من باب عطف العام على الخاص، ويكون الله قد امتن على عباده بالقوت والرزق، عموما وخصوصا. ويحتمل أن المراد بالريحان، المعروف، وأن الله امتن على عباده بما يسره في الأرض من أنواع الروائح الطيبة، والمشام الفاخرة، التي تسر الأرواح، وتنشرح لها النفوس. ولما ذكر جملة كثيرة من نعمه التي تشاهد بالأبصار والبصائر، وكان الخطاب للثقلين، الجن والإنس، قررهم تعالى بنعمه فقال: * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) *، أي: فبأي نعم الله الدينية والدنيوية تكذبان؟ وما أحسن جواب الجن حين تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة، فكلما مر بقوله: * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) *، قالوا: ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد، فهكذا ينبغي للعبد إذا تليت عليه نعم الله وآلاؤه، أن يقر بها، ويشكر، ويحمد الله عليها. * (خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار فبأي آلاء ربكما تكذبان) * ثم قال تعالى: * (خلق الإنسان) * إلى * (تكذبان) *. وهذا من نعمه تعالى على عباده، حيث أراهم من آثار قدرته وبديع صنعته، أن * (خلق) * أبا * (الإنسان) * وهو آدم عليه السلام * ( من صلصال كالفخار) *، أي: من طين مبلول، قد أحكم بله، وأتقن، حتى جف، فصار له صلصلة وصوت، يشبه صوت الفخار، وهو الطين المشوي. * (وخلق الجان) *، أي: أبا الجن، وهو إبليس لعنه الله * (من مارج من نار) *، أي: من لهب النار الصافي، أو الذي قد خالطه الدخان. وهذا يدل على شرف عنصر الآدمي المخلوق من الطين والتراب، الذي هو محل الرزانة والثقل والمنافع، بخلاف عنصر الجان وهو النار، التي هي محل الخفة والطيش، والشر والفساد. ولما بين خلق الثقلين ومادة ذلك، وكان منة منه تعالى
(٨٢٩)