تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٨١٢
* (وإنا لموسعون) * لأرجائها وأنحائها. وإنا لموسعون أيضا على عبادنا بالرزق الذي ما ترك دابة في مهامه القفار، ولجج البحار، وأقطار العالم العلوي والسلفي، إلا وأوصل إليها من الرزق، ما يكفيها، وساق إليها من الإحسان ما يغنيها. فسبحان من عم بجوده جميع المخلوقات، وتبارك الذي وسعت رحمته، جميع البريات. * (والأرض فرشناها) *، أي: جعلناها فراشا للخلق، يتمكنون فيها من كل ما تتعلق به مصالحهم، من مساكن وغراس وزرع وحرث وجلوس، وسلوك للسبل الموصلة إلى مقاصدهم ومآربهم. ولما كان الفراش قد يكون صالحا للانتفاع من كل وجه، وقد يكون من وجه دون وجه، أخبر تعالى أنه مهدها أحسن مهاد، على أكمل الوجوه وأحسنها، وأثنى على نفسه بذلك، فقال: * (فنعم الماهدون) * الذي مهد لعباده ما اقتضته حكمته ورحمته. * (ومن كل شيء خلقنا زوجين) *، أي: صنفين، ذكر وأنثى، من كل نوع من أنواع الحيوانات. * (لعلكم تذكرون) * لنعم الله التي أنعم بها عليكم في تقدير ذلك، وحكمته حيث جعل ما هو السبب لبقاء نوع الحيوانات كلها، لتقوموا بتنميتها وخدمتها وتربيتها، فيحصل من ذلك ما يحصل من المنافع. فلما دعا العباد إلى النظر إلى آياته الموجبة لخشيته، والإنابة إليه، أمر بما هو المقصود من ذلك، وهو الفرار إليه، أي: الفرار مما يكرهه الله ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه، ظاهرا وباطنا، فرار من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الغفلة إلى الذكر. فمن استكمل هذه الأمور، فقد استكمل الدين كله، وزال عنه المرهوب، وحصل له غاية المراد والمطلوب. وسمى الله الرجوع إليه فرارا، لأن في الرجوع إلى غيره أنواع المخاوف والمكاره، وفي الرجوع إليه أنواع المحاب والأمن والسرور والسعادة والفوز. فيفر العبد من قضائه وقدره إلى قضائه وقدره، وكل من خفت منه فررت منه إلا الله تعالى، فإنه بحسب الخوف منه، يكون الفرار إليه. * (إني لكم منه نذير مبين) *، أي: منذر لكم من عذاب الله، ومخوف بين النذارة. * (ولا تجعلوا مع الله إلها آخر) *، هذا من الفرار إلى الله، بل هذا أصل الفرار إليه أن يفر العبد من اتخاذ آلهة غير الله من الأوثان والأنداد والقبور، وغيرها، مما عبد من دون الله، ويخلص لربه العبادة والخوف، والرجاء والدعاء، والإنابة. * (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون فتول عنهم فما أنت بملوم وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) * يقول الله مسليا لرسوله صلى الله عليه وسلم عن تكذيب المشركين بالله، المكذبين له، القائلين فيه من الأقوال الشنيعة، ما هو منزه عنه، وأن هذه الأقوال ما زالت دأبا وعادة للمجرمين المكذبين للرسل، فما أرسل الله من رسول إلا رماه قومه بالسحر أو الجنون. يقول الله تعالى: هذه الأقوال التي صدرت منهم الأولين والآخرين هل هي أقوال تواصوا بها، ولقن بها بعضهم بعضا؟ فلا يستغرب بسبب ذلك اتفاقهم عليها: * (أم هم قوم طاغون) * تشابهت قلوبهم وأعمالهم بالكفر والطغيان، فتشابهت أقوالهم الناشئة عن طغيانهم؟ وهذا هو الواقع، كما قال تعالى: * (وقال الذين كفروا لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية، كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم) *، وكذلك المؤمنون، لما تشابهت قلوبهم بالإذعان للحق وطلبه، والسعي فيه بادروا إلى الإيمان برسلهم وتعظيمهم، وتوقيرهم، وخطابهم بالخطاب اللائق بهم. يقول تعالى آمرا رسوله بالإعراض عن المعرضين المكذبين: * (فتول عنهم) *، أي: لا تبال بهم ولا تؤاخذهم، وأقبل على شأنك. * (فما أنت بملوم) * في ذنبهم، وإنما عليك البلاغ، وقد أديت ما حملت، وبلغت ما أرسلت به. * (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) * والتذكير نوعان: تذكير بما لم يعرف تفصيله، مما عرف مجمله بالفطر والعقول، فإن الله فطر العقول على محبة الخير وإيثاره، وكراهة الشر والزهد فيه، وشرعه موافق لذلك، فكل أمر ونهي من الشرع، فهو من التذكير، وتمام التذكير، أن يذكر ما في المأمور، من الخير والحسن والمصالح، وما في المنهي عنه من المضار. والنوع الثاني من التذكير: تذكير بما هو معلوم للمؤمنين، ولكن انسحبت عليه الغفلة والذهول، فيذكرون بذلك، ويكرر عليهم ليرسخ في أذهانهم، وينتبهوا ويعملوا بما تذكروه من ذلك، وليحدث لهم نشاطا وهمة، توجب لهم الانتفاع والارتفاع. وأخبر الله أن الذكرى تنفع المؤمنين، لأن ما معهم من الإيمان والخشية والإنابة، واتباع رضوان الله، يوجب لهم أن تنفع فيهم الذكرى وتقع الموعظة منهم موقعها كما قال تعالى: * (فذكر إن نفعت الذكرى * سيذكر من يخشى * ويتجنبها
(٨١٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 807 808 809 810 811 812 813 814 815 816 817 ... » »»