تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٨١٠
فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون * فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين * فقربه إليهم قال ألا تأكلون * فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم * فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم * قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم * قال فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين * لنرسل عليهم حجارة من طين * مسومة عند ربك للمسرفين * فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين * وتركنا فيهآ آية للذين يخافون العذاب الأليم) * يقول تعالى: * (هل أتاك) *، أي: أما جاءك * (حديث ضيف إبراهيم المكرمين) *، ونبأهم الغريب العجيب، وهم الملائكة الذين أرسلهم الله لإهلاك قوم لوط، وأمرهم بالمرور على إبراهيم، فجاءوه في صورة أضياف. * (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما، قال) * مجيبا لهم * (سلام) *، أي: عليكم * (قوم منكرون) *، أي: أنتم قوم منكرون، فأحب أن تعرفوني بأنفسكم، ولم يعرفهم إلا بعد ذلك. * (فراغ إلى أهله) *، أي: ذهب سريعا في خفية، ليحضر لهم قراهم. * (فجاء بعجل سمين * فقربه إليهم) * وعرض عليهم الأكل. * (قل ألا تأكلون * فأوجس منهم خيفة) * حين رأى أيديهم لا تصل إليه. * (قالوا لا تخف ) * وأخبروه بما جاءوا له * (وبشروه بغلام عليم) * وهو: إسحاق عليه السلام. * (ف) * لما سمعت المرأة البشارة * (أقبلت) * فرحة مستبشرة * (في صرة) *، أي: صيحة * (فصكت وجهها) * وهذا من جنس ما يجري للنساء عند السرور ونحوه، من الأقوال والأفعال المخالفة للطبيعة والعادة. * (وقالت عجوز عقيم) *، أي: أنى لي الولد، وأنا عجوز، قد بلغت من السن، ما لا تلد معه النساء، ومع ذلك، فأنا عقيم، غير صالح رحمي للولادة أصلا فثم مانعان، كل منهما مانع من الولد. وقد ذكرت المانع الثالث في سورة هود في قولها: * (وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب) *. * (قالوا كذلك قال ربك) *، أي: الله الذي قدر ذلك وأمضاه، فلا عجب في قدرة الله. * (إنه هو الحكيم العليم) *، أي: الذي وضع الأشياء مواضعها، وقد وسع كل شيء علما فسلموا لحكمه، واشكروه على نعمته. * (قال فما خطبكم أيها المرسلون) *، أي: قال لهم إبراهيم عليه السلام: ما شأنكم أيها المرسلون؟ وماذا تريدون؟ لأنه استشعر أنهم رسل، أرسلهم الله لبعض الشؤون المهمة. * (قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) * وهم قوم لوط، قد أجرموا بإشراكهم بالله، وتكذبيهم لرسولهم، وإتيانهم الفاحشة، التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين. * (لنرسل عليهم حجارة من طين * مسومة عند ربك للمسرفين) *، أي: معلمة، على كل حجر اسم صاحبه، لأنهم أسرفوا، وتجاوزوا الحد. فجعل إبراهيم يجادلهم في قوم لوط، لعل الله يدفع عنهم العذاب، فقيل له: * (يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود) *. * (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) * وهم بيت لوط عليه السلام، إلا امرأته، فإنها من المهلكين. * (وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم) * يعتبرون بها ويعلمون، أن الله شديد العقاب، وأن رسله صادقون، مصدقون. فصل في ذكر بعض ما تضمنته هذه القصة من الحكم والأحكام منها: أن من الحكمة، أن قص الله على عباده، نبأ الأخيار والفجار، ليعتبروا بهم، وأين وصلت بهم الأحوال. ومنها: فضيلة إبراهيم الخليل، عليه الصلاة والسلام، حيث ابتدأ الله قصته، بما يدل على الاهتمام بشأنها، والاعتناء بها. ومنها: مشروعية الضيافة، وأنها من سنن إبراهيم الخليل، الذي أمر الله محمدا وأمته، أن يتبعوا ملته، وساقها الله في هذا الموضع، على وجه المدح له والثناء. ومنها: أن الضيف يكرم بأنواع الإكرام، بالقول والفعل، لأن الله وصف أضياف إبراهيم بأنهم مكرمون، أي: أكرمهم إبراهيم، ووصف الله ما صنع بهم من الضيافة قولا وفعلا، ومكرمون أيضا عند الله. ومنها: أن إبراهيم عليه السلام، قد كان بيته، مأوى للطارقين والأضياف، لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان، وإنما سلكوا طريق الأدب، في ابتداء السلام، فرد عليإم إبراهيم سلاما، أكمل من سلامهم وأتم، لأنه أتى به جملة اسمية دالة على الثبوت والاستمرار. ومنها: مشروعية تعرف من جاء إلى الإنسان، أو صار له فيه نوع اتصال، لأن في ذلك فوائد كثيرة. ومنها: أدب إبراهيم ولطفه في الكلام، حيث قال: * (قوم منكرون) * ولم يقل: (أنكرتكم)، وبين اللفظين من الفرق ما لا يخفى. ومنها: المبادرة إلى الضيافة والإسراع بها، لأن خير البر عاجله، ولهذا بادر إبراهيم بإحضار قرى أضيافه. ومنها: أن الذبيحة الحاضرة، التي
(٨١٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 805 806 807 808 809 810 811 812 813 814 815 ... » »»