تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٨٠١
لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه) متفق عليه. وفيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن، كالبنيان يشد بعضهم بعضا) وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه. ولقد أمر الله ورسوله بالقيام بحقوق المؤمنين بعضهم لبعض، ومما يحصل به التآلف والتوادد، والتواصل بينهم، كل هذا تأييد لحقوق بعضهم على بعض، فمن ذلك، إذا وقع الاقتتال بينهم، الموحب لتفرق القلوبوتباغضها وتدابرها، فليصلح المؤمنون بين إخوانهم، وليسعوا فيما به يزول شنآنهم. ثم أمر بالتقوى عموما، ورتب على القيام بالتقوى ويحقوق المؤمنين، الرحمة، فقال: * (لعلكم ترحمون) *، وإذا حصلت الرحمة، حصل خير الدنيا والآخرة، ودل ذلك على أن عدم القيام بحقوق المؤمنين، من أعظم حواجب الرحمة. وفي هاتين الآيتين من الفوائد، غير ما تقدم: أن الاقتتال بين المؤمنين مناف للأخوة الإيمانية، ولهذا كان من أكبر الكبائر، وأن الإيمان والأخوة الإيمانية لا يزولان مع وجود الاقتتال كغيره من الذنوب الكبائر، التي دون الشرك، وعلى ذلك مذهب أهل السنة والجماعة. وعلى وجوب الإصلاح بين المؤمنين بالعدل، وعلى وجوب قتال البغاة، حتى يرجعوا إلى أمر الله، وعلى أنهم لو رجعوا لغير أمر الله، بأن رجعوا على وجه لا يجوز الإقرار عليه والتزامه، أنه لا يجوز ذلك، وأن أموالهم معصومة، لأن الله أباح دماءهم وقت استمرارهم على بغيهم خاصة، دون أموالهم. * (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأول ئك هم الظالمون) * وهذا أيضا من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض، أن * (لا يسخر قوم من قوم) * بكل كلام، وقول، وفعل دال على تحقير الأخ المسلم، فإن ذلك حرام، لا يجوز، وهو دال على إعجاب الساخر بنفسه. وعسى أن يكون المسخور به خيرا من الساخر، وهو الغالب والواقع، فإن السخرية لا تقع إلا من قلب ممتلئ من مساوىء الأخلاق، متحل بكل خلق ذميم، متخل من كل خلق كريم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بحسب امرئ من الشر، أن يحقر أخاه المسلم). ثم قال: * (ولا تلمزوا أنفسكم) *، أي: لا يعب بعضكم على بعض، واللمز بالقول، والهمز بالفعل، وكلاهما منهي عنه حرام، متوعد عليه بالنار، كما قال تعالى: * (ويل لكل همزة لمزة) * الآية. وسمى الأخ المسلم نفسا لأخيه، لأن المؤمنين ينبغي أن يكون هذا حالهم كالجسد الواحد، ولأنه إذا همز غيره، أوجب للغير أن يهمزه، فيكون هو المتسبب لذلك. * (ولا تنابزوا بالألقاب) *، أي: لا يعير أحدكم أخاه، ويلقبه بلقب يكره أن يقال فيه، وهذا هو التنابز، وأما الألقاب غير المذمومة، فلا تدخل في هذا. * (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) *، أي: بئسما تبدلتم عن الإيمان والعمل بشرائعه، وما يقتضيه بالإعراض عن أوامره ونواهيه، باسم الفسوق والعصيان، الذي هو التنابز بالألقاب. * (ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) *، وهذا هو الواجب على العبد، أن يتوب إلى الله تعالى، ويخرج من حق أخيه المسلم، باستحلاله والاستغفار، والمدح مقابلة على ذمه. * (ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) * فالناس قسمان: ظالم لنفسه غير تائب، وتائب مفلح، ولا ثم غيرهما. * (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم) * نهى الله عز وجل عن كثير من الظن السئ بالمؤمنين، حيث قال: * (إن بعض الظن إثم) *، وذلك كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة، وكظن السوء، الذي يقترن به كثير من الأقوال، والأفعال المحرمة، فإن بقاء ظن السوء بالقلب، لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك، بل لا يزال به، حتى يقول ما لا ينبغي، ويفعل ما لا ينبغي. وفي ذلك أيضا إساءة الظن بالمسلم، وبغضه، وعداوته المأمور بخلافها منه. * (ولا تجسسوا) *، أي: لا تفتشوا عن عورات المسلمين، ولا تتبعوها، ودعوا المسلم على حاله، واستعملوا التغافل عن زلاته، التي إذا فتشت ظهر منها ما لا ينبغي.
(٨٠١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 796 797 798 799 800 801 802 803 804 805 806 ... » »»