ذلك الجزء: * (إن المتقين) *، أي: الذين كانت التقوى شعارهم، وطاعة الله دثارهم. * (في جنات) * مشتملات على جميع أصناف الأشجار والفواكه التي يوجد لها نظير في الدنيا، والتي لا يوجد لها نظير، مما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم يخطر على قلب بشر. * (وعيون) * سارحة، تشرب منها تلك البساتين، ويشرب بها عباد الله، يفجرونها تفجيرا. * (آخذين ما آتاهم ربهم) *: يحتمل أن المعنى أن أهل الجنة قد أعطاهم مولاهم جميع مناهم، من جميع أصناف النعيم، فأخذوا ذلك، راضين به، قد قرت به أعينهم، وفرحت به نفوسهم، ولم يطلبوا منه بدلا، ولا يبغون عنه حولا، وكل قد ناله من النعيم، ما لا يطلب عليه المزيد. ويحتمل أن هذا وصف المتقين في الدنيا، وأنهم آخذون ما آتاهم الله، من الأوامر والنواهي، أي: قد تلقوها بالرحب، وانشراح الصدر، منقادين لما أمر الله به، بالامتثال على أكمل الوجوه. ولما نهى عنه، بالانزجار عنه لله، على أكمل وجه، فإن الذين أعطاهم الله من الأوامر والنواهي هو أفضل العطايا، التي حقها، أن تتلقى بالشكر لله عليها، والانقياد. والمعنى الأول، ألصق بسياق الكلام، لأنه ذكر وصفهم في الدنيا، وأعمالهم بقوله: * (إنهم كانوا قبل ذلك) * الوقت الذي وصلوا به إلى النعيم * (محسنين) *. وهذا شامل لإحسانهم بعبادة ربهم، أن يعبدوه كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه، فإنه يراهم، وللإحسان إلى عباد الله ببذل النفع والإحسان، من مال، أو علم، أو جاه، أو نصيحة، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو غير ذلك من وجوه البر، وطرق الخيرات. حتى إنه يدخل في ذلك، الإحسان بالقول، والكلام اللين والإحسان إلى المماليك، والبهائم المملوكة، وغير المملوكة. ومن أفضل أنواع الإحسان في عبادة الخالق، صلاة الليل، الدالة على الإخلاص، وتواطؤ القلب واللسان، ولهذا قال: * (كانوا) *، أي: المحسنون * (قليلا من الليل ما يهجعون) *، أي: كان هجوعهم، أي: نومهم بالليل، قليلا. وأما أكثر الليل، فإنهم قانتون لربهم، ما بين صلاة، وقراءة، وذكر، ودعاء، وتضرع. * (وبالأسحار) * التي هي قبيل الفجر * (هم يستغفرون) * الله تعالى. فمدوا صلاتهم إلى السحر، ثم جلسوا في خاتمة قيامهم بالليل، يستغفرون الله تعالى، استغفار المذنب لذنبه، وللاستغفار بالأسحار فضيلة وخصيصة ليست لغيره، كما قال تعالى في وصف أهل الإيمان والطاعة: * (والمستغفرين بالأسحار) *. * (وفي أموالهم حق) * واجب ومستحب * (للسائل والمحروم) *، أي: للمحتاجين الذين يطلبون من الناس، والذين لا يسألونهم. * (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) * يقول تعالى داعيا عباده إلى التفكر والاعتبار: * (وفي الأرض آيات للموقنين) *، وذلك شامل لنفس الأرض، وما فيها من جبال، وبحار وأنهار، وأشجار ونبات، تدل المتفكر فيها، المتأمل لمعانيها، على عظمة خالقها، وسعة سلطانه، وعميم إحسانه، وإحاطة علمه، بالظواهر والبواطن. وكذلك في نفس العبد من العبر والحكمة والرحمة ما يدل على أن الله واحد صمد، وأنه لم يخلق الخلق سدى. وقوله: * (وفي السماء رزقكم) *، أي: مادة رزقكم من الأمطار، وصنوف الأقدار، الرزق الديني، والدنيوي. * (وما توعدون) * من الجزاء في الدنيا والآخرة، فإنه ينزل من عند الله كسائر الأقدار. فلما بين الآيات ونبه عليها تنبيها، ينتبه به الذكي اللبيب، أقسم تعالى على أن وعده وجزاءه حق، وشبه ذلك بأظهر الأشياء لنا، وهو النطق، فقال: * (فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) *. فكما أنكم لا تشكون في نطقكم، فكذلك ينبغي أن لا يعتريكم الشك في البعث والجزاء. * (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين * إذ دخلوا عليه
(٨٠٩)