* (ولا يغتب بعضكم بعضا) * والغيبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذكرك أخاك بما يكره ولو كان فيه). ثم ذكر مثلا منفرا عن الغيبة، فقال: * (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه) *، شبه أكل لحمه ميتا، المكروه للنفوس غاية الكراهة، باغتيابه، فكما أنكم تكرهون أكل لحمه، خصوصا إذا كان ميتا، فاقد الروح، فكذلك، فلتكرهوا غيبته وأكل لحمه حيا. * (واتقوا الله إن الله تواب رحيم) *، والتواب: الذي يأذن بتوبة عبده، فيوفقه لها، ثم يتوب عليه، بقبول توبته، رحيم بعباده، حيث دعاهم إلى ما ينفعهم، وقبل منهم التوبة، وفي هذه الآية دليل على التحذير الشديد من الغيبة، وأنها من الكبائر، لأن الله شبهها بأكل لحم الميت، وذلك من الكبائر. * (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) * يخبر تعالى أنه خلق بني آدم من أصل واحد، وجنس واحد، وكلهم من ذكر وأنثى، ويرجعون جميعهم إلى آدم وحواء، ولكن الله تعالى بث منهما رجالا كثيرا ونساء، وفرقهم، وجعلهم شعوبا وقبائل، أي: قبائل صغارا وكبارا، وذلك لأجل أن يتعارفوا، فإنه لو استقل كل واحد منهم بنفسه، لم يحصل بذلك التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون والتوارث، والقيام بحقوق الأقارب، ولكن الله جعلهم شعوبا وقبائل، لأجل أن تحصل هذه الأمور وغيرها مما يتوقف على التعارف، ولحوق الأنساب، ولكن الكرم بالتقوى. فأكرمهم عند الله أتقاهم، وهو أكثرهم طاعة، وانكفافا عن المعاصي، لا أكثرهم قرابة وقوما، ولا أشرفهم نسبا. ولكن الله تعالى عليم خبير، يعلم منهم من يقوم بتقوى الله، ظاهرا وباطنا، فيجازي كلا بما يستحق. وفي هذه الآية دليل على أن معرفة الأنساب مطلوبة مشروعة، لأن الله جعلهم شعوبا وقبائل لأجل ذلك. * (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ول كن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم * إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أول ئك هم الصادقون * قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم * يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين * إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون) * يخبر تعالى عن مقالة بعض الأعراب الذين دخلوا في الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دخولا من غير بصيرة، ولا قيام بما يجب ويقتضيه الإيمان، أنهم مع هذا ادعوا وقالوا: آمنا، أي: إيمانا كاملا، مستوفيا لجميع أموره، فأمر الله رسوله، أن يرد عليهم، فقال: * (قل لم تؤمنوا) *، أي: لا تدعوا لأنفسكم مقام الإيمان، ظاهرا وباطنا، كاملا. * (ولكن قولوا أسلمنا) *، أي: دخلنا في الإسلام، واقتصروا على ذلك. * (و) * السبب في ذلك، أنه * (لما يدخل الإيمان في قلوبكم) * وإنما أسلمتم خوفا أو رجاء أو نحو ذلك، مما هو السبب في إيمانكم، فلذلك لم تدخل بشاشة الإيمان في قلوبكم. وفي قوله: * (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) *، أي: وقت هذا الكلام الذي صدر منكم، فكان فيه إشارة إلى أحوالهم بعد ذلك، فإن كثيرا منهم من الله عليهم بالإيمان الحقيقي، والجهاد في سبيل الله. * (وإن تطيعوا الله ورسوله) * بفعل خير، أو ترك شر * (لا يلتكم من أعمالكم شيئا) *، أي: لا ينقصكم منها مثقال ذرة، بل يوفيكم إياها، أكمل ما تكون لا تفقدون منها صغيرا ولا كبيرا. * (إن الله غفور رحيم) *، أي: غفور لمن تاب إليه وأناب، رحيم به، حيث قبل توبته. * (إنما المؤمنون) *، أي: على الحقيقة * (الذين آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا في سبيل الله) *، أي: من جمعوا بين الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله. فإن من جاهد الكفار، دل ذلك على الإيمان التام في قلبه؛ لأن من جاهد غيره على الإسلام، والإيمان، والقيام بشرائعه، فجهاده لنفسه على ذلك، من باب أولى وأحرى؛ ولأن من لم يقو على الجهاد، فإن ذلك دليل على ضعف إيمانه. وشرط تعالى في الإيمان عدم الريب، أي: الشك، لأن الإيمان النافع هو الجزم اليقيني بما أمر الله بالإيمان به، الذي لا يعتريه شك بوجه من الوجوه. وقوله: * (أولئك هم الصادقون) *، أي: الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الجميلة، فإن الصدق دعوى عظيمة في كل شيء يحتاج صاحبه إلى حجة وبرهان. وأعظم ذلك دعوى الإيمان الذي هو مدار السعادة، والفوز الأبدي، والفلاح السرمدي، فمن ادعاه وقام بواجباته ولوازمه، فهو الصادق المؤمن حقا، ومن لم يكن كذلك علم أنه ليس بصادق في دعواه، وليس لدعواه فائدة، فإن الإيمان في القلب لا يطلع عليه إلا الله تعالى. فإثباته ونفيه من باب تعليم الله بما في القلب، وهو سوء أدب، وظن بالله، ولهذا قال: * (قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، والله بكل شيء عليم) * وهذا شامل للأشياء كله، التي من جملتها ما في القلوب من الإيمان والكفران، والبر والفجور، فإنه تعالى يعلم ذلك كله، ويجازي عليه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. هذه حالة من أحوال من ادعى لنفسه الإيمان، وليس به، فإنه إما أن
(٨٠٢)