تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٨٠٠
* (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) * وهذا أيضا من الآداب التي على أولي الألباب التأدب بها واستعمالها، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بنبأ، أي: خبر أن يتثبتوا في خبره، ولا يأخذوه مجردا، فإن في ذلك خطرا كبيرا، ووقوعا في الإثم، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل، حكم بموجب ذلك ومقتضاه، فحصل من تلف النفوس والأموال، بغير حق بسبب ذلك الخبر ما يكون سببا للندامة، بل الواجب عند سماع خبر الفاسق، التثبت والتبين. فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه، عمل به وصدق، وإن دلت على كذبه، كذب، ولم يعمل به، ففيه دليل على أن خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب مردود، وخبر الفاسق متوقف فيه، ولهذا السبب كان السلف يقبلون روايات كثير من الخوارج المعروفين بالصدق، ولو كانوا فساقا. * (وآعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ول كن الله حبب إليكم الأيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أول ئك هم الراشدون * فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم) * أي: وليكن لديكم معلوما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم وهو الرسول الكريم، البار، الراشد، الذي يريد بكم الخير، وينصح لكم، وتريدون لأنفسكم من الشر والمضرة، ما لا يوافقكم الرسول عليه، ولو يطيعكم في كثير من الأمر، لشق عليكم، وأعنتكم ولكن الرسول يرشدكم. والله تعالى يحبب إليكم الإيمان، ويزينه في قلوبكم، بما أودع في قلوبكم من محبة الحق وإيثاره، وبما نصب على الحق من الشواهد والأدلة الدالة على صحته، وقبول القلوب والفطر له، وبما يفعله تعالى بكم، من توفيقه للإنابة إليه. ويكره إليكم الكفر والفسوق، أي: الذنوب الصغار بما أودع في قلوبكم من كراهة الشر، وعدم إرادة فعله، وبما نصبه من الأدلة والشواهد على فساده ومضرته، وعدم قبول الفطر له، وبما يجعل الله في القلوب من الكراهة له. * (أولئك) * الذين زين الله الإيمان في قلوبهم، وحببه إليهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان * (هم الراشدون) *، أي: الذين صلحت علومهم وأعمالهم، واستقاموا على الدين القويم، والصراط المستقيم. وضدهم الغاوون الذين حبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وكره إليهم الإيمان، والذنب ذنبهم، فإنهم لما فسقوا طبع الله على قلوبهم، * (ولما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) *، ولما لم يؤمنوا بالحق لما جاءهم أول مرة، قلب أفئدتهم. قوله: * (فضلا من الله ونعمة) *، أي: ذلك الخير الذي حصل لهم، هو بفضل الله عليهم وإحسانه، لا بحولهم وقوتهم. * (والله عليم حكيم) *، أي: عليم بمن يشكر النعمة، فيوفقه لها، ممن لا يشكرها، ولا تليق به، فيضع فضله، حيث تقتضيه حكمته. * (وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فآءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) * هذا متضمن لنهي المؤمنين عن أن يبغي بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضا، وأنه إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين، فإن على غيرهم من المؤمنين أن يتلافوا هذا الشر الكبير، وبالإصلاح بينهم، والتوسط على أكمل وجه يقع به الصلح، ويسلكوا الطرق الموصلة إلى ذلك، فإن صلحتا فبها ونعمت، * (فإن بغت إحداهما على الأخرى، فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) *. أي: ترجع إلى ما حد الله ورسوله، من فعل الخير وترك الشر، الذي من أعظمه الاقتتال. وقوله: * (فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل) * هذا أمر بالصلح، وبالعدل في الصلح، فإن الصلح قد يوجد، ولكن لا يكون بالعدل، بل بالظلم والحيف على أحد الخصمين، فهذا ليس هو الصلح المأمور به، فيجب أن لا يراعى أحدهما لقرابة، أو وطن، أو غير ذلك من المقاصد والأغراض، التي توجب العدول عن العدل. * (وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) *، أي: العادلين في حكمهم بين الناس وفي جميع الولايات التي تولوها، حتى إنه قد يدخل في ذلك عدل الرجل في أهله وعياله في أداء حقوقهم. وفي الحديث الصحيح: (المقسطون عند الله على منابر من نور: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم، وما ولوا). * (إنما المؤمنون إخوة) * هذا عقد، عقده الله بين المؤمنين، أنه إذا وجد من أي شخص كان في مشرق الأرض ومغربها، الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فإنه أخ للمؤمنين، أخوة توجب أن يحب له المؤمنون ما يحبون لأنفسهم، ويكرهوا له ما يكرهون لأنفسهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، آمرا بالأخوة الإيمانية: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم،
(٨٠٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 795 796 797 798 799 800 801 802 803 804 805 ... » »»