يكون ذلك تعليما، وقد علم أنه عالم بكل شيء، وإما أن يكون قصدهم بهذا الكلام المنة على رسوله، وأنهم قد بذلوا وتبرعوا بما ليس من مصالحهم، بل هو من حظوظه الدنيوية، وهذا تجمل بما لا يجمل، وفخر بما لا ينبغي لهم الفخر به على رسوله، فإن المنة لله تعالى عليهم. فكما أنه تعالى هو المان عليهم بالخلق والرزق، والنعم الظاهرة والباطنة، فمنته عليهم بهدايتهم إلى الإسلام، ومنته عليهم بالإيمان، أفضل من كل شيء، ولهذا قال: * (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين) *. * (إن الله يعلم غيب السماوات والأرض) *، أي: الأمور الخفية فيها، التي تخفى على الخلق، كالذي في لجج البحار، ومهامه القفار، وما جنه الليل أو واراه النهار، يعلم قطرات الأمطار، وحبات الرمال، ومكنونات الصدور، وخبايا الأمور. * (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) *. * (والله بصير بما تعملون) *، يحصي عليكم أعمالكم، ويوفيكم إياها، ويجازيكم عليها بما تقتضيه رحمته الواسعة، وحكمته البالغة. تم تفسير سورة الحجرات بعون الله ومنه وجوده وكرمه، والحمد لله. سورة ق * (ق والقرآن المجيد * بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون ه ذا شيء عجيب * أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد * قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ) * يقسم تعالى بالقرآن المجيد، أي: وسيع المعاني عظيمها، كثير الوجوه كثير البركات، جزيل المبرات، والمجد: سعة الأوصاف وعظمتها. وأحق كلام يوصف بذلك، هذا القرآن، الذي قد احتوى على علوم الأولين والآخرين، الذي حوى من الفصاحة أكملها، ومن الألفاظ أجزلها، ومن المعاني أعمها وأحسنها، وهذا موجب لكمال اتباعه وسرعة الانقياد له، وشكر الله على المنة به. ولكن أكثر الناس، لا يقدر نعم الله قدرها، ولهذا قال تعالى: * (بل عجبوا) *، أي: المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم، * (أن جاءهم منذر) * منهم، أي: ينذرهم ما يضرهم، ويأمرهم بما ينفعهم، وهو من جنسهم، يمكنهم التلقي عنه، ومعرفة أحواله وصدقه. فتعجبوا من أمر لا ينبغي لهم التعجب منه، بل يتعجب من عقل، من تعجب منه. * (فقال الكافرون) *، أي: الذي حملهم كفرهم وتكذيبهم، لا نقص بذكائهم وآبائهم. * (هذا شيء عجيب) *، أي: مستغرب، وهم في هذا الاستغراب، بين أمرين: إما صادقون في استغرابهم وتعجبهم، فهذا يدل على غاية جهلهم، وضعف عقولهم. بمنزلة المجنون الذي يستغرب كلام العاقل، وبمنزلة الجبان الذي يتعجب من لقاء الفارس للفرسان، وبمنزلة البخيل الذي يستغرب سخاء أهل السخاء، فأي ضرر يلحق من تعجب من هذه حاله؟ وهل تعجبه إلا دليل على زيادة جهله وظلمه؟ وإما أن يكونوا متعجبين، على وجه يعلمون خطأهم فيه، فهذا من أعظم الظلم وأشنعه. ثم ذكر وجه تعجبهم، فقال: * (أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد) *، فقاسوا قدرة من هو على كل شيء قدير، الكامل من كل وجه، بقدرة العبد الفقير العاجز. من جميع الوجوه، وقاسوا الجاهل الذي لا علم له، بمن هو بكل شيء عليم. * (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم) *، أي: من أجسادهم مدة مقامهم في البرزخ، وقد أحصي في كتابه. * (وعندنا كتاب حفيظ) *، أي: محفوظ عن التغيير والتبديل، بكل ما يجري عليهم في حياتهم، أو مماتهم، وهذا الاستدلال بكمال سعة علمه التي لا يحيط بها إلا هو على قدرته على إحياء الموتى. * (بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج) * أي: * (بل) * كلامهم الذي صدر منهم، إنما هو عناد وتكذيب، فقد * (كذبوا بالحق) * الذي هو أعلى أنواع الصدق * (لما جاءهم فهم في أمر مريج) *، أي: مختلط مشتبه، لا يثبتون على شيء، ولا يستقر لهم قرار، فتارة يقولون عنك: إنك ساحر، وتارة مجنون، وتارة شاعر. وكذلك جعلوا القرآن عضين، كل قال فيه، ما اقتضاه رأيه الفاسد، وهكذا كل من كذب بالحق، فإنه في أمر مختلط، لا يدرى له وجه ولا قرار، فترى أموره متناقضة مؤتفكة. كما أن من اتبع الحق
(٨٠٣)