فتولاهم برحمته، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، وتولى جزاءهم، ونصرهم. * (وأن الكافرين) * بالله تعالى، حيث قطعوا عنهم ولاية الله، وسدوا على أنفسهم رحمته * (لا مولى لهم) * يهديهم إلى سبل السلام، ولا ينجيهم من عذاب الله وعقابه. بل أولياؤهم الطاغوت، يخرجونهم من النور إلى الظلمات، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. * (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم) * لما ذكر تعالى أنه ولي المؤمنين، ذكر ما يفعل بهم في الآخرة، من دخول الجنات، التي تجري من تحتها الأنهار، التي تسقي تلك البساتين الزاهرة، والأشجار الناضرة المثمرة، بكل زوج بهيج، وكل فاكهة لذيذة. ولما ذكر أن الكافرين لا مولى لهم، ذكر أنهم وكلوا إلى أنفسهم، فلم يتصفوا بصفات المروءة، ولا الصفات الإنسانية. بل نزلوا عنها دركات، وصاروا كالأنعام، التي لا عقل لها ولا فضل، بل جل همهم ومقصدهم التمتع بلذات الدنيا وشهواتها، فترى حركاتهم الظاهرة والباطنة، دائرة حولها، غير متعدية لها إلى ما فيه الخير والسعادة، ولهذا كانت النار مثوى لهم، أي: منزلا معدا، لا يخرجون منها، ولا يفتر عنهم من عذابها. * (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم) * أي: وكم من قرية من قرى المكذبين، هي أشد قوة من قريتك، في الأموال والأولاد والأعوان، والأبنية والآلات. * (أهلكناهم) *، حين كذبوا رسلنا، ولم تفد فيهم المواعظ، فلا تجد لهم ناصرا، ولم تغن عنهم قوتهم من عذاب الله شيئا. فكيف حال هؤلاء الضعفاء، أهل قريتك، إذا أخرجوك عن وطنك وكذبوك، وعادوك وأنت أفضل المرسلين، وخير الأولين والآخرين؟ أليسوا بأحق من غيرهم بالإهلاك والعقوبة، لولا أن الله تعالى بعث رسوله بالرحمة والتأني، بكل كافر وجاحد؟ * (أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم) * أي: لا يستوي من هو على بصيرة من أمر دينه، علما وعملا، قد علم الحق واتبعه، ورجا ما وعده الله لأهل الحق، كمن هو أعمى القلب، قد رفض الحق وأضله، واتبع هواه بغير هدى من الله، ومع ذلك، يرى أن ما هو عليه هو الحق، فما أبعد الفرق بين الفريقين وما أعظم التفاوت بين الطائفتين، أهل الحق وأهل الغي * (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم) * * (مثل الجنة التي وعد المتقون) *، أي: التي أعدها الله لعباده، الذين اتقوا سخطه، واتبعوا رضوانه، أنها من نعتها، وصفتها الجميلة. * (فيها أنهار من ماء غير آسن) *، أي: غير متغير، لا بوخم ولا بريح منتنة، ولا بحرارة، ولا بكدورة، بل هو أعذب المياه وأصفاها، وأطيبها ريحا، وألذها شربا. * (وأنهار من لبن لم يتغير طعمه) * بحموضة ولا غيرها، * (وأنهار من خمر لذة للشاربين) *، أي: يلتذ بها لذة عظيمة، لا كخمر الدنيا التي يكره مذاقها وتصدع الرأس، وتغول العقل. * (وأنهار من عسل مصفى) * من شمعه وسائر أوساخه. * (ولهم فيها من كل الثمرات) * من نخيل، وعنب، وتفاح، ورمان، وأترج، وتين، وغير ذلك مما لا نظير له في الدنيا، فهذا المحبوب المطلوب قد حصل لهم. ثم قال: * (ومغفرة من ربهم) * يزول بها عنهم المرهوب، فهؤلاء خير أم * (كمن هو خالد في النار) * التي اشتد حرها، وتضاعف عذابها، * (وسقوا) * فيها * (ماء حميما) *، أي: حارا جدا، * (فقطع أمعاءهم) *. * (ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أول ئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم * والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) * يقول تعالى: ومن المنافقين * (من يستمع إليك) * ما تقول استماعا، لا عن قبول وانقياد، بل معرضة قلوبهم عنه، ولهذا قال: * (حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم) * مستفهمين عما قلت، وما سمعوا، مما لم يكن لهم فيه رغبة * (ماذا قال آنفا) *، أي: قريبا. وهذا في غاية الذم لهم، فإنهم لو كانوا حريصين على الخير لألقوا إليه
(٧٨٦)