تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٧٨٥
* (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فدآء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ول كن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم) * يقول تعالى مرشدا عباده إلى ما فيه صلاحهم، ونصرهم على أعدائهم: * (فإذا لقيتم الذين كفروا) * في الحرب والقتال، فاصدقوهم القتال، واضربوا منهم الأعناق. * (حتى إذا أثخنتموهم) * وكسرتم شوكتهم، ورأيتم الأسر أولى وأصلح، * (فشدوا الوثاق) *، أي: الرباط، وهذا احتياط لأسرهم لئلا يهربوا، فإذا اشتد منهم الوثاق اطمأن المسلمون من حربهم، ومن شرهم. فإذا كانوا تحت أسركم، فأنتم بالخيار بين المن عليهم، وإطلاقهم بلا مال. * (فإما منا بعد وإما فداء) * بأن لا تطلقوهم حتى يشتروا أنفسهم، أو يشتريهم أصحابهم بمال، أو بأسير مسلم عندهم. وهذا الأمر مستمر * (حتى تضع الحرب أوزارها) *، أي: حتى لا يبقى حرب، وتبقون في المسالمة والمهادنة، فإن لكل مقام مقالا ، ولكل حال حكما، فالحال المتقدمة، إنما هي إذا كان قتال وحرب. فإذا كان في بعض الأوقات، لا حرب فيه لسبب من الأسباب، فلا قتل ولا أسر. * (ذلك) * الحكم المذكور في ابتلاء المؤمنين بالكافرين، ومداولة الأيام بينهم، وانتصار بعضهم على بعض * (ولو يشاء الله لانتصر منهم) *، فإنه تعالى على كل شيء قدير، وقادر على أن لا ينتصر الكفار في موضع واحد أبدا، حتى يبيد المسلمون خضراءهم. * (ولكن ليبلو بعضكم ببعض) * ليقوم سوق الجهاد، وتتبين بذلك أحوال العباد، الصادق من الكاذب، وليؤمن من آمن إيمانا صحيحا، عن تبصرة، لا إيمانا مبنيا على متابعة أهل الغلبة، فإنه إيمان ضعيف جدا، لا يستمر لصاحبه عند المحن والبلايا. * (والذين قتلوا في سبيل الله) * لهم ثواب جزيل، وأجر جميل، وهم الذين قاتلوا من أمروا بقتالهم، لتكون كلمة الله هي العليا. * (فلن يضل) * الله * (أعمالهم) *، أي: لن يحبطها ويبطلها، بل يتقبلها وينميها لهم، ويظهر من أعمالهم نتائجها، في الدنيا والآخرة. * (سيهديهم) * إلى سلوك الطريق الموصلة إلى الجنة، * (ويصلح بالهم) *، أي: حالهم وأمورهم، وثوابهم يكون صالحا كاملا لا نكد فيه، ولا تنغيص، بوجه من الوجوه. * (ويدخلهم الجنة عرفها لهم) *، أي: عرفها أولا، بأن شوقهم إليها، ونعتها لهم، وذكر لهم الأعمال الموصلة إليه، التي من جملتها الشهادة في سبيل الله، ووفقهم للقيام بما أمرهم به ورغبهم فيه، ثم إذا دخلوا الجنة، عرفهم منازلهم، وما احتوت عليه من النعيم المقيم، والعيش السليم. * (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) * هذا أمر منه تعالى للمؤمنين، أن ينصروا الله بالقيام بدينه، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، وأن يقصدوا بذلك وجه الله، فإنهم إذا فعلوا ذلك، نصرهم وثبت أقدامهم، أي: يربط على قلوبهم بالصبر، والطمأنينة والثبات، ويصبر أجسادهم على ذلك، ويعينهم على أعدائهم. فهذا وعد من كريم صادق الوعد، أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه، وييسر له أسباب النصر، من الثبات وغيره. وأما الذين كفروا بربهم، ونصروا الباطل، * (فتعسا لهم) * فإنهم في تعس، أي: انتكاس من أمرهم وخذلان. * (وأضل أعمالهم) *، أي: أبطل أعمالهم التي يكيدون بها الحق، فرجع كيدهم في نحورهم، وبطلت أعمالهم التي يزعمون أنهم يريدون بها وجه الله. ذلك الإضلال والتعس، للذين كفروا، بسبب أنهم * (كرهوا ما أنزل الله) * من القرآن الذي أنزله، صلاحا للعباد، وفلاحا لهم، فلم يقبلوه، بل أبغضوه وكرهوه * (فأحبط أعمالهم) *. * (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) * أي: أفلا يسير هؤلاء المكذبون بالرسول صلى الله عليه وسلم، * (فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) *، فإنهم لا يجدون عاقبتهم إلا شر العواقب. فإنهم لا يلتفتون يمنة ولا يسرة إلا وجدوا من كان قبلهم قد بادوا وهلكوا، واستأصلهم التكذيب والكفر، فخمدوا، ودمر الله عليهم أموالهم وديارهم، بل دمر أعمالهم ومكرهم. واللكافرين في كل زمان ومكان، أمثال هذه العواقب الوخيمة، والعقوبات الذميمة. وأما المؤمنون، فإن الله تعالى ينجيهم من العذاب، ويجزل لهم كثير الثواب. * (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا) *
(٧٨٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 780 781 782 783 784 785 786 787 788 789 790 ... » »»