تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٧٧٩
والكبرياء فيها عظمته وجلاله، والعبادة مبنية على ركنين، محبة الله، والذل له، وهما ناشئان عن العلم بمحامد الله وجلاله وكبريائه. * (وهو العزيز) * القاهر لكل شيء، * (الحكيم) * الذي يضع الأشياء مواضعها، فلا يشرع ما يشرعه إلا لحكمة ومصلحة، ولا يخلق ما يخلقه إلا لفائدة ومنفعة. سورة الأحقاف * (ح م * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم * ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهمآ إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عمآ أنذروا معرضون) * هذا ثناء منه تعالى على كتابه العزيز وتعظيم له، وفي ضمن ذلك إرشاد العباد إلى الاهتداء بنوره، والإقبال على تدبر آياته، واستخراج كنوزه. ولما بين إنزال كتابه المتضمن للأمر والنهي، ذكر خلقه السماوات والأرض، فجمع بين الخلق والأمر * (ألا له الخلق والأمر) *، كما قال تعالى: * (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن) *. وكما قال تعالى: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون خلق السماوات والأرض بالحق) *. فالله تعالى، هو الذي خلق المكلفين، وخلق مساكنهم، وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض، ثم أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وأمرهم ونهاهم، وأخبرهم أن هذه الدار دار أعمال وممر للعمال، لا دار إقامة، لا يرحل عنها أهلها. وهم سينتقلون منها إلى دار الإقامة والقرار، وموطن الخلود والدوام، وإنما أعمالهم التي عملوها في هذه الدار، سيجدون ثوابها في تلك الدار كاملا موفورا. وأقام تعالى الأدلة على تلك الدار وأذاق العباد نموذجا من الثواب والعقاب العاجل، ليكون أدعى لهم إلى طلب المحبوب، والهرب من المرهوب، ولهذا قال هنا: * (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق) *، أي: لا عبثا، ولا سدى، بل ليعرف العباد عظمة خالقها، ويستدلوا على كماله، ويعلموا أن الذي خلقهما، قادر على أن يعيد العباد بعد موتهم للجزاء، وأن خالقهما وبقاءهما، مقدر إلى ساعة معينة * (وأجل مسمى) *. فلما أخبر بذلك وهو أصدق القائلين وأقام الدليل، وأنار السبيل، أخبر مع ذلك أن طائفة من الخلق قد أبوا إلا إعراضا عن الحق، وصدوفا عن دعوة الرسل، فقال: * (والذين كفروا عما أنذروا معرضون) *. وأما الذين آمنوا، فلما علموا حقيقة الحال قبلوا وصايا ربهم، وتلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالانقياد والتعظيم، ففازوا بكل خير، واندفع عنهم كل شر. * (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل ه ذآ أو أثارة من علم إن كنتم صادقين * ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعآئهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعدآء وكانوا بعبادتهم كافرين) * أي: * (قل) * لهؤلاء الذين أشركوا بالله، أوثانا وأندادا، لا تملك نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة، ولا نشورا. قل لهم مبينا عجز أوثانهم، وأنها لا تستحق شيئا من العبادة: * (أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات) *. هل خلقوا من أجرام السماوات شيئا؟ هل خلقوا جبالا؟ هل أجروا أنهارا؟ هل نشروا حيوانا؟ هل أنبتوا أشجارا؟ هل كان منهم معاونة على خلق شيء من ذلك؟ لا شيء من ذلك، بإقرارهم على أنفسهم، فضلا عن غيرهم، فهذا دليل عقلي قاطع على أن كل من سوى الله، فعبادته باطلة. ثم ذكر انتفاء الدليل النقلي، فقال: * (ائتوني بكتاب من قبل هذا) * الكتاب يدعو إلى الشرك، * (أو أثارة من علم) * موروث عن الرسل يأمر بذلك. من المعلوم أنهم عاجزون أن يأتوا عن أحد من الرسل بدليل يدل على ذلك، بل نجزم ونتيقن أن جميع الرسل دعوا إلى توحيد ربهم، ونهوا عن الشرك به. وهي أعظم ما يؤثر عنهم من العلم، قال تعالى: * (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) *. وكل رسول قال لقومه: * (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) *. فعلم أن جدال المشركين في شركهم، غير مستندين إلى برهان ولا دليل، وإنما اعتمدوا على ظنون كاذبة، وآراء كاسدة، وعقول فاسدة. يدلك على فسادها استقراء أحوالهم، وتتبع علومهم وأعمالهم، والنظر في حال من أفنوا أعمارهم بعبادته، هل أفادهم شيئا في الدنيا أو في الآخرة؟ ولهذا قال تعالى: * (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة) *، أي: مدة مقامه في الدنيا، لا ينتفع به مثقال ذرة، * (وهم عن دعائهم غافلون) *. لا يسمعون منهم دعاء، ولا يجيبون لهم نداء، هذا حالهم في الدنيا. ويوم القيامة يكفرون بشرككم. * (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء) * يلعن بعضهم بعضا، ويتبرأ بعضهم من بعض * (وكانوا بعبادتهم كافرين) *. * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم ه ذا سحر مبين * أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم * قل ما كنت بدعا من الرسل ومآ أدري ما
(٧٧٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 774 775 776 777 778 779 780 781 782 783 784 ... » »»