واجتناب نواهيه. لأن نعيمها تام كامل من كل وجه، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون. فما أشد الفرق بين الدارين * (ومن يعش عن ذكر الرحم ن نقيض له شيطانا فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون * حتى إذا جآءنا قال يليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين * ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون) * يخبر تعالى عن عقوبته البليغة، لمن أعرض عن ذكره فقال: * (ومن يعش) * أي: يعرض ويصد * (عن ذكر الرحمن) * الذي هو القرآن العظيم، الذي هو أعظم رحمة رحم بها الرحمن عباده. فمن قبلها، فقد قبل خير المواهب، وفاز بأعظم المطالب والرغائب. ومن أعرض عنها وردها، فقد خاب وخسر خسارة، لا يسعد بعدها أبدا، وقيض له الرحمن شيطانا مريدا، يقارنه، ويصاحبه، ويعده، ويمنيه، ويؤزه إلى المعاصي أزا. * (وإنهم ليصدونهم عن السبيل) * أي: الصراط المستقيم، والدين القويم. * (ويحسبون أنهم مهتدون) * بسبب تزيين الشيطان للباطل، وتحسينه له، وإعراضهم عن الحق، فاجتمع هذا وهذا. فإن قيل: فهل لهذا من عذر، من حيث إنه ظن أنه مهتد، وليس كذلك؟ قيل: لا عذر لهذا وأمثاله، الذين مصدر جهلهم، الإعراض عن ذكر الله، مع تمكنهم من الاهتداء. فزهدوا في الهدى، مع القدرة عليه، ورغبوا في الباطل، فالذنب ذنبهم، والجرم جرمهم. فهذه حالة هذا المعرض عن ذكر الله في الدنيا، مع قرينه، وهي الضلال والغي، وانقلاب الحقائق. وأما حاله، إذا جاء ربه في الآخرة، فهو شر الأحوال، وهو: الندم والتحسر، والحزن الذي لا يجبر مصابه، والتبري من قرينه، ولهذا قال تعالى: * (حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين) *. كما في قوله تعالى: * (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا) *. وقوله تعالى: * (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون) * أي: ولا ينفعكم يوم القيامة، اشتراككم في العذاب، أنتم وقرناؤكم، وأخلاؤكم. وذلك لأنكم اشتركتم في الظلم، فاشتركتم في عقابه وعذابه. ولن ينفعكم أيضا، روح التسلي في المصيبة فإن المصيبة إذا وقعت في الدنيا، واشترك فيها المعاقبون، هان عليهم بعض الهون، وتسلى بعضهم ببعض. وأما مصيبة الآخرة، فإنها جمعت كل عقاب، ما فيه أدنى راحة، حتى ولا هذه الراحة. نسألك يا ربنا العافية، وأن تريحنا برحمتك. * (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين * فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون * أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون * فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم * وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون * واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنآ أجعلنا من دون الرحم ن آلهة يعبدون) * يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، مسليا له عن امتناع المكذبين عن الاستجابة له، وأنهم لا خير فيهم، ولا فيهم زكاء يدعوهم إلى الهدى: * (أفأنت تسمع الصم) * أي: الذين لا يسمعون * (أو تهدي العمي) * الذين لا يبصرون. * (و) * تهدي * (من كان في ضلال مبين) * أي: بين واضح، لعلمه بضلاله، ورضاه به. فكما أن الأصم لا يسمع الأصوات، والأعمى لا يبصر، والضال ضلالا مبينا لا يهتدي. فهؤلاء قد فسدت فطرهم وعقولهم، بإعراضهم عن الذكر، واستحدثوا عقائد فاسدة، وصفات خبيثة، تمنعهم وتحول بينهم وبين الهدى، وتوجب لهم الازدياد من الردى. فهؤلاء لم يبق إلا عذابهم ونكالهم، إما في الدنيا، أو في الأخرة، ولهذا قال تعالى: * (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون) * أي: فإن ذهبنا بك قبل أن نريك ما نعدهم من العذاب، فاعلم بخبرنا الصادق، أنا منهم منتقمون. * (أو نرينك الذي وعدناهم) * من العذاب * (فإنا عليهم مقتدرون) * ولكن ذلك متوقف على اقتضاء الحكمة لتعجيله أو تأخيره. فهذه حالك، وحال هؤلاء المكذبين. وأما أنت * (فاستمسك بالذي أوحي إليك) * فعلا واتصافا، بما يأمر بالاتصاف به ودعوة إليه، وحرصا على تنفيذه بنفسك وفي غيرك. * (إنك على صراط مستقيم) * موصل إلى الله وإلى دار كرامته. وهذا مما يوجب عليك زيادة التمسك به والاهتداء. إذا علمت أنه حق، وعدل، وصدق، تكون بانيا على أصل أصيل، إذا بنى غيرك على الشوك والأوهام، والظلم والجور. * (وإنه) * أي: هذا القرآن الكريم * (لذكر لك ولقومك) * أي: فخر لكم، ومنقبة جليلة، ونعمة لا يقادر قدرها، ولا يعرف وصفها، ويذكركم أيضا ما فيه من الخير الدنيوي والأخروي، ويحثكم
(٧٦٦)