تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٧٥٤
الكمال بفوتهما، أو فوت أحدهما، كقوله تعالى: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * وقوله: * (فاعبده وتوكل عليه) *. * (فاطر السماوات والأرض) * أي: خالقهما بقدرته ومشيئته وحكمته. * (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) * لتسكنوا إليها، وتنتشر منكم الذرية، ويحصل لكم من النفع، ما يحصل. * (ومن الأنعام أزواجا) * أي: ومن جميع أصنافها نوعين، ذكر، وأنثى، لتبقى، وتنمو لمنافعكم الكثيرة، ولهذا عداها باللام، الدالة على التعليل: أي: جعل لكم من أنفسكم، وجعل لكم من الأنعام أزواجا. * (ليس كمثله شيء) * أي: ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لأن أسماءه، كلها حسنى، وصفاته، صفات كمال وعظمة، وأفعاله تعالى، أوجد بها المخلوقات العظيمة، من غير مشارك. فليس كمثله شيء، لانفراده، وتوحده بالكمال، من كل وجه. * (وهو السميع) * لجميع الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات. * (البصير) * يرى دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء. ويرى سريان القوت في أعضاء الحيوانات الصغيرة جدا، وسريان الماء في الأغصان الدقيقة. وهذه الآية ونحوها، دليل لمذاهب أهل السنة والجماعة، من إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات. وفيها رد، على المشبهة في قوله: * (ليس كمثله شيء) * وعلى المعطلة في قوله: * (وهو السميع البصير) *. وقوله: * (له مقاليد السماوات والأرض) * أي: له ملك السماوات والأرض وبيده مفاتيح الرحمة والأرزاق، والنعم الظاهرة والباطنة. فكل الخلق مفتقرون إلى الله، في جلب مصالحهم، ودفع المضار عنهم، في كل الأحوال، ليس بيد أحد من الأمر شيء. والله تعالى هو المعطي المانع، الضار النافع، الذي ما بالعباد من نعمة، إلا منه، ولا يدفع الشر، إلا هو و * (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده) *. ولهذا قال هنا: * (يبسط الرزق لمن يشاء) * أي: يوسعه ويعطيه من أصناف الرزق، ما شاء * (ويقدر) * أي: يضيق على من يشاء، حتى يكون بقدر حاجته، لا يزيد عنها، وكل هذا تابع لعلمه وحكمته، فلهذا قال: * (إنه بكل شيء عليم) * فيعلم أحوال عباده، فيعطي كلا، ما يليق بحكمته، وتقتضيه مشيئته. * (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) * هذه أكبر منة أنعم الله بها على عباده، أن شرع لهم من الدين خير الأديان وأفضلها، وأزكاها وأطهرها؛ دين الإسلام، الذي شرعه الله للمصطفين المختارين من عباده. بل شرعه الله لخيار الخيار، وصفة الصفوة وهم أولو العزم من المرسلين المذكورون في هذه الآية، أعلى الخلق درجة، وأكملهم من كل وجه. فالدين الذي شرعه الله لهم، لا بد أن يكون مناسبا لأحوالهم، وموافقا لكمالهم، بل إنما كملهم الله واصطفاهم، بسبب قيامهم به. فلولا الدين الإسلامي، ما ارتفع أحد من الخلق، فهو روح السعادة، وقطب رحى الكمال، وهو ما تضمنه هذا الكتاب الكريم، ودعا إليه من التوحيد والأعمال، والأخلاق، والآداب. وقال: * (أن أقيموا الدين) * أي: أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين أصوله وفروعه، تقيمونه بأنفسكم، وتجتهدون في إقامته على غيركم، وتعاونون على البر والتقوى ولا تعاونون على الإثم والعدوان. * (ولا تتفرقوا فيه) * أي: ليحصل منكم اتفاق على أصول الدين وفروعه. واحرصوا علي أن لا تفرقكم المسائل، وتحزبكم أحزابا وشيعا، يعادي بعضكم بعضا، مع اتفاقكم على أصل دينكم. ومن أنواع الاجتماع على الدين وعدم التفرق فيه، ما أمر به الشارع من الاجتماعات العامة، كاجتماع الحج والأعياد، والجمع، والصلوات الخمس، والجهاد، وغير ذلك، من العبادات، التي لا تتم، ولا تكمل إلا بالاجتماع لها، وعدم التفرق. * (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) * أي: شق عليهم غاية المشقة، حيث دعوتهم إلى الإخلاص لله وحده، كما قال عنهم: * (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، وإذا ذكر الذين من دونه إذ هم يستبشرون) * وقولهم: * (اجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب) *.
(٧٥٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 749 750 751 752 753 754 755 756 757 758 759 ... » »»