تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٧٢٩
وتدبيرا، ف * (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم) *. فلما بين من عظمته، ما يقتضي أن تمتلئ القلوب له إجلالا وإكراما، ذكر حال من عكس القضية، فلم يقدره حق قدره فقال: * (والذين كفروا بآيات الله) * الدالة على الحق اليقين، والصراط المستقيم. * (أولئك هم الخاسرون) * خسروا، ما به تصلح القلوب، من التأله والإخلاص لله. وما به تصلح الألسن، من إشغالها بذكر الله، وما تصلح به الجوارح من طاعة الله. وتعوضوا عن ذلك كل مفسد للقلوب والأبدان، وخسروا جنات النعيم، وتعرضوا عنها، بالعذاب الأليم. * (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) * * (قل) * يا أيها الرسول، لهؤلاء الجاهلين، الذين دعوك إلى عبادة غير الله: * (أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) * أي: هذا الأمر صدر من جهلكم، وإلا فلو كان لكم علم بأن الله تعالى، الكامل من جميع الوجوه، مسدي جميع النعم، هو المستحق للعبادة، دون من كان ناقصا من كل وجه، لا ينفع، ولا يضر، لم تأمروني بذلك. وذلك لأن الشرك بالله، محبط للأعمال، مفسد للأحوال، ولهذا قال: * (ولقد أوحي إليك إلى الذين من قبلك) * من جميع الأنبياء. * (لئن أشركت ليحبطن عملك) *، هذا مفرد مضاف، يعم كل عمل. ففي نبوة جميع الأنبياء، أن الشرك محبط لجميع الأعمال، كما قال تعالى في سورة الأنعام لما عد كثيرا من أنبيائه ورسله قال عنهم: * (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) *. * (ولتكونن من الخاسرين) * دينك وآخرتك. فبالشرك تحبط الأعمال، ويستحق العقاب والنكال. ثم قال: * (بل الله فاعبد) * لما أخبر أن الجاهلين يأمرونه بالشرك، وأخبر عن شناعته، أمره بالإخلاص فقال: * (بل الله فاعبد) * أي: أخلص له العبادة، وحده لا شريك له. * (وكن من الشاكرين) * الله، على توفيق الله تعالى. فكما أنه يشكر على النعم الدنيوية، كصحة الجسم وعافيته، وحصول الرزق وغير ذلك. كذلك يشكر ويثنى عليه، بالنعم الدينية، كالتوفيق للإخلاص، والتقوى، بل نعم الدين، هي النعم على الحقيقة. وفي تدبر أنها من الله تعالى والشكر لله عليها، سلامة من آفة العجب، التي تعرض لكثير من العاملين، بسبب جهلهم. وإلا، فلو عرف العبد حقيقة الحال، لم يعجب بنعمة تستحق عليه زيادة الشكر. * (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميع ا قبض ته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) * يقول تعالى: وما قدر هؤلاء المشركون ربهم حق قدره، ولا عظموه حق تعظيمه، بل فعلوا ما يناقض ذلك، من إشراكهم به من هو ناقص في أوصافه وأفعاله. فأوصافه ناقصة من كل وجه، وأفعاله، ليس عنده نفع ولا ضر، ولا عطاء، ولا منع، ولا يملك من الأمر شيئا. فسووا هذا المخلوق الناقص، بالخالق الرب العظيم، الذي من عظمته الباهرة، وقدرته القاهرة أن جميع الأرض يوم القيامة، قبضة للرحمن، وأن السماوات على سعتها وعظمتها مطويات بيمينه. فلم يعظمه حق تعظيمه، من سوى به غيره، وهل أظلم ممن فعل ذلك؟ * (سبحانه وتعالى عما يشركون) * أي: تنزه، وتعاظم عن شركهم به. * (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون * وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وج يء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون * ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون) * لما خوفهم تعالى عن عظمته، خوفهم بأحوال يوم القيامة، ورغبهم ورهبهم فقال: * (ونفخ في الصور) * وهو قرن عظيم، لا يعلم عظمته إلا خالقه، ومن أطلعه الله على علمه من خلقه. فينفخ فيه إسرافيل عليه السلام؛ أحد الملائكة المقربين، وأحد حملة عرش الرحمن. * (فصعق) * أي: غشي عليه أو مات، على اختلاف القولين. * (من في السماوات ومن في الأرض) * أي: كلهم، لما سمعوا نفخة الصور أزعجتهم من شدتها وعظمها، وما يعلمون أنها مقدمة له. * (إلا من شاء الله) * ممن ثبته الله عند النفخة، فلم يصعق، كالشهداء أو بعضهم، وغيرهم. وهذه النفخة الأولى، نفخة الصعق، ونفخة الفزع. * (ثم نفخ فيه) * نفخة * (أخرى) * نفخة البعث * (فإذا هم قيام) * أي: قد قاموا من قبورهم، لبعثهم وحسابهم، قد تمت منهم الخلقة الجسدية والأرواح، وشخصت أبصارهم * (ينظرون) * ماذا يفعل الله بهم. * (وأشرقت الأرض بنور ربها) * علم من هذا، أن الأنوار الموجودة تذهب يوم القيامة وتضمحل، وهو كذلك. فإن الله أخبر أن الشمس تكور،
(٧٢٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 724 725 726 727 728 729 730 731 732 733 734 ... » »»