تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٧١١
وتستأصلهم، إن أقاموا على ما هم عليه. * (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب) * أي: قال هؤلاء المكذبون، من جهلهم، ومعاندتهم الحق، مستعجلين للعذاب. * (ربنا عجل لنا قطنا) * أي: قسطنا، وما قسم لنا من العذاب عاجلا * (قبل يوم الحساب) * ولجوا في هذا القول، وزعموا أنك يا محمد، إن كنت صادقا فعلامة صدقك، أن تأتيهم بالعذاب. * (اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) * فقال الله لرسوله: * (اصبر على ما يقولون) * كما صبر من قبلك من الرسل، فإن قولهم لا يضر الحق شيئا، ولا يضرونك في شيء، وإنما يضرون أنفسهم. لما أمر الله رسوله بالصبر على قومه، أمره أن يستعين على الصبر بالعبادة لله وحده، ويتذكر حال العابدين، كما قال في الآية الأخرى: * (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) *. ومن أعظم العابدين، نبي الله داود عليه الصلاة والسلام * (ذا الأيد) * أي: القوة العظيمة على عبادة الله تعالى، في بدنه وقبله. * (إنه أواب) * أي: رجاع إلى الله في جميع الأمور بالإنابة إليه، بالحب والتأله، والخوف، والرجاء، وكثرة التضرع، والدعاء. رجاع إليه، عندما يقع منه بعض الخلل، بالإقلاع والتوبة النصوح. ومن شدة إنابته لربه وعبادته، أن سخر الله الجبال معه، تسبح معه بحمد ربها * (بالعشي والإشراق) * أول النهار وآخره. * (و) * سخر * (الطير محشورة) * معه مجموعة * (كل) * من الجبال والطير * (له) * تعالى * (أواب) * امتثالا لقوله تعالى: * (يا جبال أوبي معه والطير) * فهذه منة الله عليه بالعبادة. ثم ذكر منته عليه بالملك العظيم فقال: * (وشددنا ملكه) * أي: قويناه بما أعطيناه من الأسباب، وكثرة العدد والعدد التي بها قوى الله ملكه. ثم ذكر منته عليه بالعلم فقال: * (وآتيناه الحكمة) * أي: النبوة والعلم والعظيم * (وفصل الخطاب) * أي: الخصومات بين الناس. * (وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنآ إلى سواء الصراط * إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب * قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب * فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن م آب * يداوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) * لما ذكر تعالى أنه آتى نبيه داود الفصل في الخطاب بين الناس، وكان معروفا بذلك، ومقصودا، ذكر تعالى نبأ خصمين اختصما عنده، في قضية جعلها الله فتنة لداود، وموعظة لخلل ارتكبه، فتاب الله عليه، وغفر له، وقيض له هذه القضية، فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: * (وهل أتاك نبأ الخصم) * فإنه نبأ عجيب * (إذ تسوروا) * على داود * (المحراب) * أي: محل عبادته من غير إذن ولا استئذان، ولم يدخلوا عليه من باب. فلما دخلوا عليه بهذه الصورة، فزع منهم وخاف فقالوا له: نحن * (خصمان) * فلا تخف * (بغى بعضنا على بعض) * بالظلم * (فاحكم بيننا بالحق) * أي: بالعدل، ولا تمل مع أحدنا * (ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط) *. والمقصود من هذا، أن الخصمين قد عرف أن قصدهما الحق الواضح الصرف وإذا كان ذلك كذلك، فسيقصان عليه نبأهما بالحق، فلم يشمئز نبي الله داود من وعظهما له، ولم يؤنبهما. فقال أحدهما: * (إن هذا أخي) * نص على الأخوة في الدين أو النسب، أو الصداقة، لاقتضائها عدم البغي، وأن بغيه الصادر منه، أعظم من غيره. * (له تسع وتسعون نعجة) * أي: زوجة، وذلك خير كثير، يوجب عليه القناعة بما آتاه الله. * (ولي نعجة واحدة) * فطمع فيها * (فقال أكفلنيها) * أي: دعها لي، وخلها في كفالتي. * (وعزني في الخطاب) * أي: غلبني في القول، فلم يزل بي، حتى أدركها أو كاد. فقال داود لما سمع كلامه أن هذا هو الواقع، فلهذا لم يحتج أن يتكلم الآخر، فلا وجه للاعتراض بقوله القائل: (لم حكم داود، قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر)؟
(٧١١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 706 707 708 709 710 711 712 713 714 715 716 ... » »»