وقدرتهم على ذلك. * (وجفان كالجواب) * أي: كالبرك الكبار، يعملونها لسليمان للطعام، لأنه يحتاج إلى ما لا يحتاج إليه غيره. * (و) * يعملون له من * (قدور راسيات) * لا تزول عن أماكنها، من عظمها. فلما ذكر منته عليهم، أمرهم بشكرها فقال: * (اعملوا آل داود) * وهم داود، وأولاده، وأهله، لأن المنة على الجميع، وكثير من هذه المصالح عائد لكلهم. * (شكرا) * الله على ما أعطاهم، ومقابلة لما أولاهم. * (وقليل من عبادي الشكور) * فأكثرهم، لم يشكروا الله تعالى على ما أولاهم، من النعم، ودفع عنهم من النقم. والشكر: اعتراف القلب بمنة الله تعالى، وتلقيها افتقارا إليها، وصرفها في طاعة الله تعالى، وصونها عن صرفها في المعصية. فلم يزل الشياطين يعملون لسليمان، عليه الصلاة والسلام، كل بناء. وكانوا قد موهوا على الإنس، وأخبروهم أنهم يعلمون الغيب، ويطلعون على المكنونات. فأراد الله تعالى أن يري العباد كذبهم في هذه الدعوى، فمكثوا يعملون على عملهم. وقضى الله بالموت على سليمان عليه السلام، واتكأ على عصاه، وهي المنسأة. فصاروا إذا مروا به وهو متكئ عليها، ظنوه حيا، وهابوه. فغدوا على عملهم كذلك سنة كاملة على ما قيل، حتى سلطت دابة الأرض على عصاه، فلم تزل ترعاها، حتى بادت، وسقطت، فيسقط سليمان وتفرقت الشياطين وتبينت الإنس أن الجن * (أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) * وهو العمل الشاق عليهم. فلو علموا الغيب، لعلموا موت سليمان، الذي هم أحرص شيء عليه، ليسلموا مما هم فيه. * (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور * فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجناتهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل * ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجزي إلا الكفور * وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين * فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور * ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين * وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ) * سبأ قبيلة معروفة في أداني اليمن، ومسكنهم بلدة يقال لها (مأرب). ومن نعم الله ولطفه بالناس عموما، وبالعرب خصوصا، أنه قص في القرآن أخبار المهلكين والمعاقبين، ممن كان يجاور العرب، ويشاهد آثارهم، ويتناقل الناس أخبارهم، ليكون ذلك أدعى إلى التصديق، وأقرب للموعظة فقال: * (لقد كان لسبأ في مسكنهم) * أي: محلهم الذي يسكنون فيه * (أيه) *. والآية هنا: ما أدر الله عليهم من النعم، وصرف عنهم من النقم، الذي يقتضي ذلك منهم، أن يعبدوا الله ويشكروه. ثم فسر الآية بقوله: * (جنتان عن يمين وشمال) * وكان لهم واد عظيم، تأتيه سيول كثيرة، وكانوا بنوا سدا محكما، يكون مجمعا للماء. فكانت السيول تأتيه، فيجتمع هناك ماء عظيم، فيفرقونه على بساتينهم، التي عن يمين ذلك الوادي وشماله. وتغل لهم تلك الجنتان العظيمتان، من الثمار ما يكفيهم، ويحصل لهم الغبطة والسرور. فأمرهم الله بشكر نعمه، التي أدرها عليهم من وجوه كثيرة: منها: أن الله جعل بلدهم، بلدة طيبة، لحسن هوائها، وقلة وخمها، وحصول الرزق الرغد فيها. ومنها: أن الله تعالى وعدهم إن شكروه أن يغفر لهم ويرحمهم، ولهذا قال: * (بلدة طيبة ورب غفور) *. ومنها: أن الله لما علم احتياجهم في تجارتهم ومكاسبهم، إلى الأرض المباركة، الظاهر أنها: قرى صنعاء، كما قاله غير واحد من السلف، وقيل: إنها الشام، هيأ لهم من الأسباب، ما به يتيسر وصولهم إليها، بغاية السهولة، من الأمن، وعدم الخوف، وتواصل القرى بينهم وبينها، بحيث لا يكون عليهم مشقة، بحمل الزاد والمزاد. ولهذا قال: * (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير) * أي: سيرا مقدرا يعرفونه، ويحكمون عليه، بحيث لا يتيهون عنه * (سيروا فيها ليالي وأياما آمنين) * أي: مطمئنين في السير، في تلك الليالي والأيام، غير خائفين. وهذا من تمام نعمة الله عليهم، أن أمنهم من الخوف. فأعرضوا عن المنعم، وعن عبادته، وبطروا النعمة، وملوها. حتى إنهم طلبوا وتمنوا، أن تتباعد أسفارهم بين تلك القرى، التي كان السير فيها متيسرا. * (وظلموا أنفسهم) * بكفرهم بالله وبنعمته، فعاقبهم الله تعالى بهذه التعمة، التي أطغتهم، فأبادها عليهم، فأرسل عليها سيل العرم، أي: السيل المتوعر، الذي خرب سدهم، وأتلف جناتهم، وخرب بساتينهم. فتبدلت تلك الجنات ذات الحدائق المعجبة، والأشجار المثمرة، وصار بدلها، أشجار لا نفع فيها، ولهذا قال: * (وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل) * أي: شيء قليل من الأكل الذي لا يقع منهم موقعا * (خمط وأثل وشئ من سدر قليل) * وهذا كله شجر معروف، وهذا من جنس عملهم. فكما بدلوا الشكر الحسن، بالكفر القبيح، بدلوا تلك النعمة بما ذكر، ولهذا قال: * (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور) * أي: وهل نجازي جزاء العقوبة بدليل السياق إلا من كفر بالله وبطر النعمة؟ فلما أصابهم ما أصابهم، تفرقوا
(٦٧٧)