تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٦٥٠
على تقليد آباء غير مهتدين، بل ضالين مضلين. ولهذا قال: * (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله) * على أيدي رسله، فإنه الحق، وبينت لهم أدلته الظاهرة * (قالوا) * معارضين ذلك: * (بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) * فلا نترك ما وجدنا عليه آباءنا لقول أحد، كائنا من كان. قال تعالى في الرد عليهم وعلى آبائهم: * (أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) *. فاستجاب له آباؤهم، ومشوا خلفه، وصاروا من تلاميذ الشيطان، واستولت عليهم الحيرة. فهل هذا، موجب لاتباعهم ومشيهم على طريقتهم، أم ذلك يرهبهم من سلوك سبيلهم، وينادي على ضلالهم، وضلال من تبعهم. وليس دعوة الشيطان لآبائهم ولهم، محبة لهم ومودة، وإنما ذلك عداوة لهم ومكر لهم، وبالحقيقة أتباعه من أعدائه، الذين تمكن منهم، وظفر بهم، وقرت عينه باستحاقهم عذاب السعير، بقبول دعوته. * (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) * * (ومن يسلم وجهه إلى الله) * أي: يخضع له وينقاد له بفعل الشرائع مخلصا له دينه. * (وهو محسن) * في ذلك الإسلام بأن كان عمله مشروعا، قد اتبع فيه الرسول. أو من يسلم وجهه إلى الله، بفعل جميع العبادات، وهو محسن فيها، بأن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه، فإنه يراك. أو من يسلم وجهه إلى الله، بالقيام بحقوقه، وهو محسن إلى عباد الله، قائم بحقوقهم. والمعاني متلازمة، لا فرق بينها إلا من جهة اختلاف مورد اللفظين. وإلا فكلها منفعة على القيام بجميع شرائع الدين، على وجه تقبل به وتكمل. فمن فعل ذلك، * (فقد استمسك بالعروة الوثقى) * أي: بالعروة التي من تمسك بها، توثق ونجا، وسلم من الهلاك، وفاز بكل خير. ومن لم يسلم وجهه لله، أو لم يحسن لم يستمسك بالعروة الوثقى، وإذا لم يستمسك لم يكن ثم إلا الهلاك والبوار. * (وإلى الله عاقبة الأمور) * أي: رجوعها، وموثلها، ومنتهاها. فيحكم في عباده، ويجازيهم بما آلت إليه أعمالهم، ووصلت إليه عواقبهم، فليستعدوا لذلك الأمر. * (ومن كفر فلا يحزنك كفره) * لأنك أديت ما عليك، من الدعوة والبلاغ. فإذا لم يهتد، فقد وجب أجرك على الله، ولم يبق للحزن موضع على عدم اهتدائه، لأنه لو كان فيه خير، لهداه الله. ولا تحزن أيضا، على كونهم تجرؤوا عليك بالعداوة، ونابذوك المحاربة، واستمروا على غيهم وكفرهم، ولا تتحرق عليهم، بسبب أنهم ما بودروا بالعذاب. إن * (إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا) * من كفرهم وعداوتهم، وسعيهم في إطفاء نور الله، وأذى رسله. * (إن الله عليم بذات الصدور) * التي ما نطق بها الناطقون، فكيف بما ظهر، وكان شهادة؟ * (نمتعهم قليلا) * في الدنيا، ليزداد إثمهم، ويتوفر عذابهم. * (ثم نضطرهم) * أي: نلجئهم * (إلى عذاب غليظ) * أي: انتهى في عظمه، وكبره، وفظاعته، وألمه، وشدته. * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير) * * (ولئن سألتهم) * أي: سألت هؤلاء المشركين المكذبين بالحق. * (من خلق السماوات والأرض) * لعلموا أن أصنامهم، ما خلقت شيئا من ذلك * (ليقولن الله) * الذي خلقهما وحده. * (قل) * لهم، ملزما لهم، ومحتجا عليهم بما أقروا به، على ما أنكروا. * (الحمد الله) * الذي بين النور، وأظهر الاستدلال عليكم من أنفسكم. فلو كانوا يعلمون، لجزموا أن المنفرد بالخلق والتدبير، هو الذي يفرد بالعبادة والتوحيد. * (بل أكثرهم لا يعلمون) * فلذلك أشركوا به غيره، ورضوا بتناقض ما ذهبوا إليه، على وجه الحيرة والشك، لا على وجه البصيرة. ثم ذكر هاتين الآيتين، نموذجا من سعة أوصاف الله سبحانه، ليدعو عباده إلى معرفته، ومحبته، وإخلاص الدين له. فذكر عموم ملكه، وأن جميع ما في السماوات والأرض وهذا شامل لجميع العالم العلوي والسفلي أنه ملكه، يتصرف فيهم بأحكام الملك
(٦٥٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 645 646 647 648 649 650 651 652 653 654 655 ... » »»