فثبت عجزهم عن إثبات شيء لها تستحق به أن تعبد. ولكن عبادتهم إياها، عن غير علم وبصيرة، بل عن جهل وضلال، ولهذا قال: * (بل الظالمون في ضلال مبين) * أي: جلي واضح حيث عبدوا من لا يملك نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، وتركوا الإخلاص للخالق الرازق المالك لكل الأمور. * (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) * يخبر تعالى عن امتنانه على عبده الفاضل لقمان، بالحكمة، وهي العلم بالحق على وجهه وحكمته، فهي العلم بالأحكام، ومعرفة ما فيها، من الأسرار والإحكام. فقد يكون الإنسان عالما، ولا يكون حكيما. وأما الحكمة، فهي مستلزمة للعلم، بل وللعمل، ولهذا فسرت الحكمة بالعلم النافع، والعمل الصالح. ولما أعطاه الله هذه المنة العظيمة، أمره أن يشكره على ما أعطاه، ليبارك له فيه، وليزيده من فضله، وأخبره أن شكر الشاكرين، يعود نفعه عليهم، وأن من كفر فلم يشكر الله، عاد وبال ذلك عليه. * (والله غني) * عنه * (حميد) * فيما يقدره ويقضيه، على من خالف أمره. فغناه تعالى، من لوازم ذاته، وكونه حميدا في صفات كماله، حميدا في جميل صنعه، ن لوازم ذاته، وكل واحد من الوصفين، صفة كمال، واجتماع أحدهما إلى الآخر، زيادة كمال إلى كمال. واختلف المفسرون، هل كان لقمان نبيا، أو عبدا صالحا؟ والله تعالى لم يذكر عنه إلا أنه آتاه الحكمة، وذكر بعض ما يدل على حكمته، في وعظه لابنه. فذكر أصول الحكمة وقواعدها الكبار فقال: * (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه) *. وقال له قولا يعظه به، والوعظ: الأمر، والنهي، المقرون بالترغيب والترهيب. فأمره بالإخلاص، ونهاه عن الشرك، وبين له السبب في ذلك فقال: * (إن الشرك لظلم عظيم) * ووجه كونه ظلما عظيما، أنه لا أفظع ولا أبشع ممن سوى المخلوق من تراب، بمالك الرقاب. وسوى الذي لا يملك من الأمر شيئا، بمالك الأمر كله. وسوى الناقص الفقير من جميع الوجوه، بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه. وسوى من لا يستطيع أن ينعم بمثقال ذرة من النعم، بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم، ودنياهم، وأخراهم، وقلوبهم، وأبدانهم، إلا منه، ولا يصرف السوء إلا هو. فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟ وهل أعظم ظلما، ممن خلقه الله لعبادته وتوحيده، فذهب بنفسه الشريفة، فجعلها في أخس المراتب؟ جعلها عابدة لمن لا يسوى شيئا، فظلم نفسه ظلما كبيرا. ولما أمر بالقيام بحقه، بترك الشرك الذي من لوازمه القيام بالتوحيد، أمر بالقيام بحق الوالدين فقال: * (ووصينا الإنسان) * أي: عهدنا إليه، وجعلناه وصية عنده، سنسأله عن القيام بها، وهل حفظها أم لا؟ فوصيناه * (بوالديه) * وقلنا له * (اشكر لي) * بالقيام بعبوديتي، وأدار حقوقي، وأن لا تستعين بنعمي على معصيتي. * (ولوالديك) * بالإحسان إليهما بالقول اللين، والكلام اللطيف، والفعل الجميل، والتواضع لهما، وإكرامهما، وإجلالهما، والقيام بمؤونتهما واجتناب الإساءة إليهما من كل وجه، بالقول والفعل. فوصيناه بهذه الوصية، وأخبرناه أن * (إلي المصير) * أي: سترجع أيها الإنسان إلى من وصاك، وكلفك بهذه الحقوق، فيسألك: هل قمت بها، فيثيبك الثواب الجزيل؟ أم ضيعتها، فيعاقبك العقاب الوبيل؟ وذلك السبب الموجب لبر الوالدين في الأم فقال: * (حملته أمه وهنا على وهن) * أي: مشقة على مشقة، فلا تزال تلاقي المشاق، من حين يكون نطفة، من الوحم، والمرض، والضعف، والثقل، وتغير الحال، وثم وجع الولادة، ذلك الوجع الشديد. * (وفصاله في عامين) * وهو ملازم لحضانة أمه وكفالتها، ورضاعها. أفما يحسن بمن تحمل على ولده هذه الشدائد، مع شدة الحب، أن يؤكد على ولده، ويوصي إليه بتمام الإحسان إليه؟ * (وإن جاهداك) * أي: اجتهد والداك * (على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما) * ولا تظن أن هذا داخل في الإحسان إليهما، لأن حق الله، مقدم على حق كل أحد، و (لا طاعة لمخلوق، في معصية الخالق). ولم يقل (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فعقهما). بل قال: * (فلا تطعهما) * أي: في الشرك، وأما برهما، فاستمر عليه. ولهذا قال: * (وصاحبهما في الدنيا معروفا) * أي: صحبة إحسان إليهما بالمعروف. وأما اتباعهما، وهما بحالة الكفر والمعاصي، فلا تتبعهما. * (واتبع سبيل من أناب إلي) * وهم المؤمنون بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، المستسلمون لربهم، المنيبون إليه. واتباع سبيلهم، أن يسلك مسلكهم في الإنابة إلى الله، التي هي انجذاب دواعي القلب وإرادته، إلى الله، ثم يتبعها سعي البدن، فيما يرضي الله، ويقرب منه. * (ثم إلي مرجعكم) * الطائع والعاصي، والمنيب، وغيره * (فأنبئكم بما كنتم تعملون) *، فأجازيك على إيمانك، وأجازيهما على كفرهما، ثم أجازي كلا منكم بما صدر عنه من الخير والشر. فلا يخفى على الله من أعمالهم خافية.
(٦٤٨)