* (هلم إلينا) * أي: ارجعوا، كما تقدم من قولهم: * (يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا) *. وهم مع تعويقهم وتخذيلهم * (لا يأتون البأس) * أي: القتال والجهاد، بأنفسهم * (إلا قليلا) * فهم أشد الناس حرصا على التخلف، لعدم الداعي لذلك، من الإيمان والصبر. ولوجود المقتضي للجبن، من النفاق، وعدم الإيمان. * (أشحة عليكم) * بأبدانهم عن القتال، وبأموالهم عند النفقة فيه، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم. * (فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه) * أي: نظر المغشي عليه * (من الموت) * من شدة الجبن، الذي خلع قلوبهم، والقلق الذي أذهلهم، وخوفا من إجبارهم على ما يكرهون من القتال. * (فإذا ذهب الخوف) * وصاروا في حال الأمن والطمأنينة. * (سلقوكم بألسنة حداد) * أي: خاطبوكم، وتكلموا معكم، بكلام حديد، ودعاوى غير صحيحة. وحين تسمعهم، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام، * (أشحة على الخير) * الذي يراد منهم. وهذا شر ما في الإنسان، أن يكون شحيحا بما أمر به، شحيحا بماله أن ينفقه في وجهه، شحيحا في بدنه أن يجاهد أعداء الله، أو يدعو إلى سبيل الله، شحيحا بجاهه، شحيحا بعلمه، ونصيحته، ورأيه. * (أولئك) * الذين بتلك الحالة * (لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم) * بسبب عدم إيمانهم، * (وكان ذلك على الله يسيرا) *. وأما المؤمنون، فقد وقاهم الله، شح أنفسهم، ووفقهم لبذل ما أمروا به، من بذل أبدانهم في القتال في سبيله، وإعلاء كلمته، وأموالهم، للنفقة في طرق الخير، وجاههم وعلمهم. * (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا) * أي: يظنون أن هؤلاء الأحزاب، الذين تحزبوا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، لم يذهبوا حتى يستأصلوهم، فخاب ظنهم، وبطل حسبانهم. * (وإن يأت الأحزاب) * مرة أخرى * (يودوا لو أنهم بأدون في الأعراب يسألون عن أنبائكم) * أي: لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة، ود هؤلاء المنافقون، أنهم ليسوا في المدينة، ولا في القرب منها، وأنهم مع الأعراب في البادية، يستخبرون عن أخباركم، ويسألون عن أنبائكم، ماذا حصل عليكم؟ فتبا لهم، وبعدا، فليسوا ممن يغالى بحضورهم * (ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا) * فلا تبالوهم، ولا تأسوا عليهم. * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة، وباشر موقف الحرب، وهو الشريف الكامل، والبطل الباسل. فكيف تشحون بأنفسكم، عن أمر جاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنفسه فيه؟ فتأسوا به في هذا الأمر وغيره. واستدل الأصوليون في هذه الآية، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الأصل، أن أمته أسوته في الأحكام، إلا ما دل الدليل الشرعي على الاختصاص به. فالأسوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة. فالأسوة الحسنة، في الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن المتأسي به، سالك الطريق الموصل إلى كرامة الله، وهو الصراط المستقيم. وأما الأسوة بغيره، إذا خالفه، فهو الأسوة السيئة، كقول المشركين حين دعتهم الرسل للتأسي بهم: * (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) *. وهذه الأسوة الحسنة، إنما يسلكها ويوفق لها، من كان يرجو الله واليوم الآخر. فإن ما معه من الإيمان، وخوف الله، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثه على التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم. لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف، ذكر حال المؤمنين فقال: * (ولما رأى المؤمنون الأحزاب) * الذين تحزبوا، ونزلوا منازلهم، وانتهى الخوف. * (قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله) * في قوله: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) *. * (وصدق الله ورسوله) *، فإنا رأينا ما أخبرنا به * (وما زادهم) * ذلك الأمر * (إلا إيمانا) * في قلوبهم * (وتسليما) * في جوارحهم، وانقيادا لأمر الله. ولما ذكر أن المنافقين، عاهدوا الله، لا يولون الأدبار، ونقضوا ذلك العهد، ذكر وفاء المؤمنين به، فقال: * (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) * أي: وفوا به، وأتموه، وأكملوه. فبذلوا مهجهم في مرضاته، وسبلوا نفوسهم في طاعته. * (فمنهم من قضى نحبه) * أي: إرادته ومطلوبه، وما عليه من الحق، فقتل في سبيل الله، أو مات مؤديا لحقه، لم ينقصه شيئا. * (ومنهم من ينتظر) * تكميل ما عليه، فهو شارع في قضاء ما عليه، ووفاء نحبه ولما يكمله، وهو في رجاء تكميله، ساع في ذلك، مجد. * (وما بدلوا تبديلا) * كما بدل غيرهم، بل لم يزالوا على العهد، لا يلوون، ولا يتغيرون. فهؤلاء، هم الرجال على الحقيقة، ومن عداهم، فصورهم صور رجال، وأما الصفات ، فقد قصرت عن صفات الرجال. * (ليجزي الله الصادقين بصدقهم) * أي: بسبب صدقهم، في أقوالهم، وأحوالهم، ومعاملتهم مع الله، واستواء ظاهرهم وباطنهم، قال الله تعالى: * (هذا يوم ينفع الصادقين
(٦٦١)