تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٦٤٧
لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أول ئك لهم عذاب مهين * وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم * خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم) * ولما ذكر تعالى المهتدين بالقرآن، المقبلين عليه، ذكر من أعرض عنه، ولم يرفع به رأسا، وأنه عوقب على ذلك، بأن تعوض عنه كل باطل من القول، فترك أعلى الأقوال، وأحسن الحديث، واستبدل به أسفل قول وأقبحه، فلذلك قال: * (ومن الناس) * (إلي) * (وهو العزيز الحكيم) * (إي) * (ومن الناس من) * هو محروم مخذول * (يشتري) * أي: يختار ويرغب رغبة من يبذل الثمن في الشيء. * (لهو الحديث) * أي: الأحاديث الملهية للقلوب، الصادة لها عن أجل مطلوب. فدخل في هذا، كل كلام محرم، وكل لغو، وباطل، وهذيان من الأقوال المرغبة في الكفر، والفسوق، والعصيان، ومن أقوال الرادين على الحق، المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق، ومن غيبة، ونميمة، وكذب، وشتم، وسب، ومن غناء ومزامير شيطان، ومن الماجريات الملهية، التي لا نفع فيها في دين ولا دنيا. فهذا الصنف من الناس، يشتري لهو الحديث، عن هدي الحديث * (ليضل) * (الناس) * (عن سبيل الله بغير علم) * أي: بعدما ضل هو في فعله، أضل غيره، لأن الإضلال، ناشىء عن الضلال. وإضلاله في هذا الحديث، صده عن الحديث النافع، والعمل النافع، والحق المبين، والصراط المستقيم. ولا يتم له هذا، حتى يقدح في الهدى والحق، الذي جاءت به آيات الله. * (ويتخذها هزوا) * يسخر بها، وبمن جاء بها. فإذا جمع بين مدح الباطل والترغيب فيه، والقدح في الحق، والاستهزاء به وبأهله، أضل من لا علم عنده وخدعه بما يوحيه إليه، من القول الذي لا يميزه ذلك الضال، ولا يعرف حقيقته. * (أولئك لهم عذاب مهين) * بما ضلوا، واستهزؤوا بآيات الله، وكذبوا الحق الواضح. ولهذا قال: * (وإذا تتلى عليه آياتنا) * ليؤمن بها وينقاد لها. * (ولى مستكبرا) * أي: أدبر إدبار مستكبر عنها، راد لها، ولم تدخل قلبه ولا أثرت فيه، بل أدبر عنها * (كأن لم يسمعها) * (بل) * (كأن في أذنيه وقرا) * أي: صمما لا تصل إليه الأصوات، فهذا لا حيلة في هدايته. * (فبشره) * بشارة تؤثر في قلبه الحزن والغم، وفي بشرته السوء، والظلمة، والغبرة. * (بعذاب أليم) * مؤلم لقلبه، ولبدنه، لا يقادر قدره، ولا يدري بعظيم أمره. فهذه بشارة أهل الشر، فلا نعمت البشارة. وأما بشارة أهل الخير فقال: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * جمعوا بين عبادة الباطن بالإيمان، والظاهر بالإسلام، والعمل الصالح. * (لهم جنات النعيم) * بشارة لهم بما قدموه، وقرى لهم بما أسلفوه. * (خالدين فيها) * أي، في جنات النعيم، نعيم الروح، والبدن. * (وعد الله حقا) * لا يمكن أن يخلف، ولا يغير، ولا يتبدل. * (وهو العزيز الحكيم) * كامل العزة، كامل الحكمة. من عزته وحكمته، أن وفق من وفق، وخذل من خذل، بحسب ما اقتضاه علمه فيهم، وحكمته. * (خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دآبة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم * ه ذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين) * يتلو تعالى عباده، آثارا من آثار قدرته، وبدائع من بدائع حكمته، ونعما من آثار رحمته، فقال: * (خلق السماوات) * السبع، على عظمها، وسعتها، وكثافتها، وارتفاعها الهائل. * (بغير عمد ترونها) * أي: ليس لها عمد، ولو كان لها عمد لرؤيت وإنما استقرت واستمسكت، بقدرة الله تعالى. * (وألقى في الأرض رواسي) * أي: جبالا عظيمة، ركزها في أرجائها وأنحائها، لئلا * (تميد بكم) * فلولا الجبال الراسيات، لمادت الأرض، ولما استقرت بساكنها. * (وبث فيها من كل دابة) * أي: نشر في الأرض الواسعة، من جميع أصناف الدواب، التي هي مسخرة لبني آدم، ولمصالحهم، ومنافعهم. ولما بثها في الأرض، علم تعالى أنه لا بد لها من رزق تعيش به، فأنزل من السماء ماء مباركا. * (فأنبتنا فيها من كل زوج كريم) * المنظر، نافع مبارك، فرتعت فيه الدواب المنبثة، وسكن إليه كل حيوان. * (هذا) * أي: خلق العالم العلوي والسفلي، من جماد، وحيوان، وسوق أرزاق الخلق إليهم * (خلق الله) * وحده لا شريك له، كل مقر بذلك حتى أنتم يا معشر المشركين. * (فأروني ماذا خلق الذين من دونه) * أي: الذين جعلتموهم له شركاء، تدعونهم وتعبدونهم، يلزم على هذا، أن يكون لهم خلق كخلقه، ورزق كرزقه. فإن كان لهم شيء من ذلك، فأرونيه، ليصح ما ادعيتم فيهم من استحقاق العبادة. ومن المعلوم أنهم لا يقدرون أن يروه شيئا من الخلق لها، لأن جميع المذكورات، قد أقروا أنها خلق الله وحده، ولا ثم شيء يعلم غيرها.
(٦٤٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 642 643 644 645 646 647 648 649 650 651 652 ... » »»