تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٦٤٩
* (يا بني إنها إن تك مثال حبة من خردل) * التي هي أصغر الأشياء وأحقرها. * (فتكن في صخرة) * أي: في وسطها * (أو في السماوات أو في الأرض) * في أي: جهة من جهاتهما * (يأت بها الله) * سعة علمه، وتمام خبرته وكمال قدرته. ولهذا قال: * (إن الله لطيف خبير) * أي: لطف في علمه وخبرته، حتى اطلع على البواطن والأسرار، وخفايا القفار والبحار. والمقصود من هذا، الحث على مراقبة الله، والعمل بطاعته، مهما أمكن، والترهيب من عمل القبيح، قل أو كثر. * (يا بني أقم الصلاة) * حثه عليها، وخصها لأنها أكبر العبادات البدنية. * (وأمر بالمعروف وانه عن المنكر) * وذلك يستلزم العلم بالمعروف، ليأمر به، والعلم بالمنكر، لينهى عنه. والأمر بما لا يتم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر إلا به، من الرفق، والصبر، وقد صرح به في قوله: * (واصبر على ما أصابك) * ومن كونه فاعلا لما يأمر به، كافا لما ينهى عنه، فتضمن هذا تكميل نفسه بفعل الخير وترك الشر، وتكميل غيره بذلك، بأمره ونهيه. ولما علم أنه لا بد أن يبتلى إذا أمر ونهى وأن في الأمر والنهي مشقة على النفوس، أمره بالصبر على ذلك فقال * (واصبر على ما أصابك إن ذلك) * الذي وعظ به لقمان ابنه * (من عزم الأمور) * أي: من الأمور التي يعزم عليها، ويهتم بها، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم. * (ولا تصعر خدك للناس) * أي: لا تمله وتعبس بوجهك للناس، تكبرا عليهم، وتعاظما. * (ولا تمش في الأرض مرحا) * أي: بطرا، فخرا بالنعم، ناسيا المنعم، معجبا بنفسك. * (إن الله لا يحب كل مختال) * في نفسه وهيئته وتعاظمه * (فخور) * بقوله. * (واقصد في مشيك) * أي: امش متواضعا مستكينا، لا مشي البطر والتكبر، ولا مشي التماوت. * (واغض ض من صوتك) * أدبا مع الناس ومع الله. * (إن أنكر الأصوات) * أي: أفظعها وأبشعها * (لصوت الحمير) *. فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدة ومصلحة، لما اختص بذلك الحمار، الذي قد علمت خسته وبلادته. وهذه الوصايا، التي وصى بها لقمان ابنه، تجمع أمهات الحكم، وتستلزم ما لم يذكر منها. وكل وصية يقرن بها، ما يدعو إلى فعلها، إن كانت أمرا، وإلى تركها، إن كانت نهيا. وهذا يدل على ما ذكرنا في تفسير الحكمة، أنها العلم بالأحكام، وحكمها ومناسباتها. فأمره بأصل الدين، وهو التوحيد، ونهاه عن الشرك، وبين له الموجب لتركه. وأمره ببر الوالدين، وبين له السبب الموجب لبرهما، وأمره بشكره وشكرهما، ثم احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما، ما لم يأمرا بمعصية، ومع ذلك، فلا يعقهما، بل يحسن إليهما، وإن كان لا يطيعهما إذا جاهداه على الشرك. وأمره بمراقبة الله، وخوفه القدوم عليه. وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير والشر، إلا أتى بها. ونهاه عن التكبر، وأمره بالتواضع، ونهاه عن البطر والأشر، والمرح، وأمره بالسكون في الحركات والأصوات، ونهاه عن ضد ذلك. وأمره بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة وبالصبر اللذين يسهل بهما كل أمر، كما قال تعالى: * (واستعينوا بالصبر والصلاة) *. فحقيق بمن أوصى بهذه الوصايا، أن يكون مخصوصا بالحكمة، مشهورا بها. ولهذا من منة الله على عباده، أن قص عليهم من حكمته، ما يكون لهم به أسوة حسنة. * (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) * يمتن تعالى على عباده بنعمه، ويدعوهم إلى شكرها ورؤيتها، وعدم الغفلة عنها فقال: * (ألم تروا) * أي: تشاهدوا وتبصروا بأبصاركم، وقلوبكم. * (أن الله سخر لكم ما في السماوات) * من الشمس والقمر والنجوم، كلها مسخرات لنفع العباد. * (وما في الأرض) * من الحيوانات والأشجار والزروع، والأنهار والمعادن ونحوها كما قال تعالى: * (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) *. * (وأسبغ عليكم) * أي: عمكم وغمركم بوافر * (نعمه ظاهرة وباطنة) * التي نعلم بها، والتي تخفى علينا، نعم الدنيا، ونعم الدين، حصول المنافع، ودفع المضار، فوظيفتكم أن تقوموا بشكر هذه النعم، بمحبة المنعم والخضوع له، وصرفها في الاستعانة على طاعته، وأن لا يستعان بشيء منها على معصيته. * (و) * لكن مع توالي هذه النعم، فإن * (من الناس من) * لم يشكرها، بل كفرها، وكفر بمن أنعم بها، وجحد الحق الذي أنزل به كتبه، وأرسل به رسله. فجعل * (يجادل في الله) * أي: يجادل عن الباطل، ليدحض به الحق، ويدفع به ما جاء به الرسول، من الأمر بعبادة الله وحده. وهذا المجادل يجادل * (بغير علم) * وعلى غير بصيرة. فليس جداله عن علم، فيترك وشأنه، ويسمح له في الكلام * (ولا هدى) * يقتدي به بالمهتدين * (ولا كتاب منير) * أي: نير مبين للحق، فلا معقول، ولا منقول، ولا اقتداء بالمهتدين. وإنما جداله في الله، مبني
(٦٤٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 644 645 646 647 648 649 650 651 652 653 654 ... » »»