ثبوتا لا تغير فيه. * (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) * فهذا الوعد، لا بد منه، ولا محيد عنه. فلا بد من تقرير أسبابه من الكفر والمعاصي. * (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا) * أي: يقال للمجرمين، الذين ملكهم الذل، وسألوا الرجعة إلى الدنيا، ليستدركوا ما فاتهم: قد فات وقت الرجوع ولم يبق إلا العذاب، فذوقوا العذاب الأليم، بما نسيتم لقاء يومكم هذا. وهذا النسيان نسيان ترك، أي: بما أعرضتم عنه، وتركتم العمل له، وكأنكم غير قادمين عليه، ولا ملاقيه. * (إنا نسيناكم) * أي: تركناكم بالعذاب، جزاء من جنس عملكم، فكما نسيتم نسيتم. * (وذوقوا عذاب الخلد) * أي: العذاب غير المنقطع. فإن العذاب إذا كان له أجل وغاية، كان فيه بعض التنفيس والتخفيف. وأما عذاب جهنم أعاذنا الله منه فليس فيه روح راحة، ولا انقطاع لعذابهم فيها. * (بما كنتم تعملون) * من الكفر والفسوق والمعاصي. * (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) * لما ذكر الكافرين بآياته، وما أعد لهم من العذاب، ذكر المؤمنون بها، ووصفهم، وما أعد لهم من الثواب فقال: * (إنما يأمن بآياتنا) * أي: إيمانا حقيقيا، من يوجد منه شواهد الإيمان. وهم: * (الذين إذا ذكروا بها) * فتليت عليهم آيات القرآن، وأتتهم النصائح على أيدي رسل الله، ودعوا إلى التذكر، سمعوها فقبلوها، وانقادوا، و * (خروا سجدا) * أي: خاضعين لها، خضوع ذكر لله، وفرح بمعرفته. * (وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون) * لا بقلوبهم، ولا بأبدانهم، فيمتنعون من الانقياد لها بل متواضعون لها، وقد تلقوها بالقبول، وقابلوها بالانشراح والتسليم، وتوصلوا، بها إلى مرضاة الرب الرحيم، واهتدوا بها إلى الصراط المستقيم. * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) * أي: ترتفع جنوبهم، وتنزعج عن مضاجعها اللذيذة، إلى ما هو ألذ عندهم منه وأحب إليهم، وهو: الصلاة في الليل، ومناجاة الله تعالى. ولهذا قال: * (يدعون ربهم) * أي: في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية، ودفع مضارهما. * (خوفا وطمعا) * أي: جامعين بين الوصفين، خوفا أن ترد أعمالهم، وطمعا في قبولها. خوفا من عذاب الله، وطمعا في ثوابه. * (ومما رزقناهم) * من الرزق، قليلا أو كثيرا * (ينفقون) * ولم يذكر قيد النفقة، ولا المنفق عليه، ليدل على العموم. فإنه يدخل فيه، النفقة الواجبة، كالزكوات، والكفارات، ونفقة الزوجات والأقارب، والنفقة المستحبة في وجوه الخير، والنفقة والإحسان المالي، خير مطلقا، سواء وافق فقيرا أو غنيا، قريبا أو بعيدا، ولكن الأجر يتفاوت، بتفاوت النفع، فهذا عملهم. وأما جزاؤهم، فقال: * (فلا تعلم نفس) * يدخل فيه جميع نفوس الخلق، لكونه نكرة في سياق النفي. أي: فلا يعلم أحد * (ما أخفي لهم من قرة أعين) * من الخير الكثير، والنعيم الغزير، والفرح والسرور، واللذة والحبور. كما قال تعالى على لسان رسوله: (أعددت لعبادي الصاحلين، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر). فكما صلوا في الليل، ودعوا، وأخفوا العمل، جازاهم من جنس عملهم، فأخفى أجرهم، ولهذا قال: * (جزاء بما كانوا يعملون) *. * (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون) * ينبه تعالى، العقول على ما تقرر فيها، من عدم تساوي المتفاوتين المتباينين، وأن حكمته تقضي عدم تساويهما فقال: * (أفمن كان مؤمنا) * قد عمر قلبه الإيمان، وانقادت جوارحه لشرائعه، واقتضى إيمانه آثاره وموجباته، من ترك مساخط الله، التي يضر وجودها بالإيمان. * (كمن كان فاسقا) * قد خرب قلبه، وتعطل من الإيمان، فلم يكن فيه وازع ديني، فأسرعت عنه جوارحه بموجبات الجهل والظلم، في كل إثم ومعصية، وخرج بفسقه عن طاعة ربه. أفيستوي هذان الشخصان؟ * (لا يستوون) * عقلا وشرعا، كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء، والظلمة، وكذلك لا يستوي ثوابهما في الآخرة. * (وأما الذي آمنوا وعملوا
(٦٥٥)