وتعاهدوا على استئصال الرسول والصحابة، وذلك في وقعة الخندق. ومالأتهم طوائف اليهود، الذي حوالي المدينة، فجاءوا بجنود عظيمة وأمم كثيرة. وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم، على المدينة، فحصروا المدينة، واشتد الأمر، وبلغت القلوب الحناجر، حتى بلغ الظن من كثير من الناس كل مبلغ، لما رأوا من الأسباب المستحكمة، والشدائد الشديدة، فلم يزل الحصار على المدينة، مدة طويلة، والأمر كما وصف الله في قوله: * (وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا) * أي: الظنون السيئة، أن الله لا ينصر دينه، ولا يتم كلمته. * (هنالك ابتلي المؤمنون) * بهذه الفتنة العظيمة * (وزلزلوا زلزالا شديدا) * بالخوف والقلق، والجوع، ليتبين إيمانهم، ويزيد إيقانهم. فظهر ولله الحمد من إيمانهم، وشدة يقينهم، ما فاقوا فيه الأولين والآخرين. وعندما اشتد الكرب، وتفاقمت الشدائد، صار إيمانهم عين اليقين. * (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما) *. * (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طائفة منهم يأهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا * ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بهآ إلا يسيرا * ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا * قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا * قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا * قد يعلم الله المعوقين منكم والقآئلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا * أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أول ئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا * يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بأدون في الأعراب يسألون عن أنبآئكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا * لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا * ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا ه ذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما * من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا * ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما * ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا * وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا * وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا) * وهنالك تبين نفاق المنافقين، وظهر ما كانوا يضمرون، قال تعالى: * (وإذا يقول المنافقون) * إلى * (إلا غرورا) *. وهذه عادة المنافق عند الشدة والمحنة، لا يثبت إيمانه، وينظر بعقله القاصر، إلى الحالة الحاضرة، ويصدق ظنه. * (وإذ قالت طائفة منهم) * أي: من المنافقين، بعدما جزعوا وقل صبرهم، وصاروا أيضا من المخذولين، فلا صبروا بأنفسهم، ولا تركوا الناس من شرهم. فقالت هذه الطائفة: * (يا أهل يثرب) * يريدون (يا أهل المدينة). فنادوهم باسم الوطن المنبىء عن التسمية فيه، إشارة إلى أن الدين والأخوة الإيمانية، ليس لهما في قلوبهم قدر، وأن الذي حملهم على ذلك مجرد الخور الطبيعي. * (يا أهل يثرب لا مقام لكم) * أي: في موضعكم الذي خرجتم إليه خارج المدينة. وكانوا عسكروا دون الخندق، وخارج المدينة * (فارجعوا) * إلى المدينة. فهذه الطائفة تخذل عن الجهاد، وتبين أنهم لا قوة لهم بقتال عدوهم، ويأمرونهم بترك القتال. فهذه الطائفة، شر الطوائف وأضرها. وطائفة أخرى دونهم، أصابهم الجبن والجزع، وأحبوا أن يتخذلوا عن الصفوف. فجعلوا يعتذرون بالأعذار الباطلة، وهم الذين قال الله فيهم: * (ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة) * أي: عليها الخطر، ونخاف عليها أن يهجم عليها الأعداء، ونحن غيب عنها، فائذن لنا نرجع إليها، فنحرسها، وهم كذبة في ذلك. * (وما هي بعورة إن يريدون) * أي: ما قصدهم * (إلا فرارا) * ولكن جعلوا هذا الكلام، وسيلة وعذرا لهم. فهؤلاء قل إيمانهم، وليس لهم ثبوت عند اشتداد المحن. * (ولو دخلت عليهم) * المدينة * (من أقطارها) * أي: لو دخل الكفار إليها من نواحيها، واستولوا عليها * (ثم) * سئل هؤلاء * (الفتنة) * أي: الانقلاب عن دينهم، والرجوع إلى دين المستولين المتغلبين * (لآتوها) * أي: لأعطوها مبادرين. * (وما تلبثوا بها إلا يسيرا) * أي: ليس لهم منعة ولا تصلب على الدين، بل بمجرد ما تكون الدولة للأعداء، يعطونهم ما طلبوا، ويوافقونهم على كفرهم، هذه حالهم. والحال أنهم * (كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا) * سيسألهم عن ذلك العهد، فيجدهم قد نقضوه، فما ظنهم إذا بربهم؟ * (قل) * لهم لائما على فرارهم، ومخبرا أنهم لا يفيدهم ذلك شيئا * (لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل) * فلو كنتم في بيوتكم، لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعكم. والأسباب تنفع، إذا لم يعارضها القضاء والقدر، فإذا جاء القضاء والقدر، تلاشى كل سبب، وبطلت كل وسيلة ظنها الإنسان تنجيه. * (وإذا) * حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل، ولتنعموا في الدنيا فإنكم * (لا تمتعون إلا قليلا) * متاعا، لا يسوي فراركم، وترككم أمر الله، وتفويتكم على أنفسكم، التمتع الأبدي، في النعيم السرمدي. ثم بين أن الأسباب كلها، لا تغني عن العبد شيئا، إذا أراده الله بسوء فقال: * (قل من ذا الذين يعصمكم) * أي: يمنعكم من * (الله إن أراد بكم سوءا) * أي: شرا. * (أو أراد بكم رحمة) * فإنه هو المعطي المانع، الضار النافع، الذي لا يأتي بالخير إلا هو، ولا يدفع السوء إلا هو. * (ولا يجدون لهم من دون الله وليا) * يتولاهم، فيجلب لهم المنافع * (ولا نصيرا) * ينصرهم، فيدفع عنهم المضار. فليمتثلوا طاعة المنفرد بالأمور كلها، الذي نفذت مشيئته، ومضى قدره، ولم ينفع مع ترك ولايته ونصرته، ولي ولا ناصر. ثم توعد تعالى المخذلين المعوقين، وتهددهم فقال: * (قد يعلم الله المعوقين منكم) * عن الخروج، لمن لم يخرجوا * (والقائلين لإخوانهم) * الذين خرجوا
(٦٦٠)