تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٦٣٨
ولهذا نبههم على السير في الأرض، والنظر في عاقبة الذين كذبوا رسلهم، وخالفوا أمرهم، ممن هم أشد من هؤلاء قوة، وأكثر آثارا في الأرض، من بناء قصور، ومصانع، ومن غرس أشجار، ومن زرع، وإجراء أنهار. فلم تغن عنهم قوتهم، ولا نفعتهم آثارهم، حين كذبوا رسلهم، الذين جاءوهم بالبينات الدالات على الحق، وصحة ما جاءوهم به. فإنهم حين ينظرون في آثار أولئك، لم يجدوا إلا أمما بائدة، وخلقا مهلكين، ومنازل بعدهم موحشة، وذم من الخلق عليهم متتابع. وهذا جزاء معجل، توطئة للجزاء الأخروي، ومبتدأ له. وكل هذه الأمم المهلكة، لم يظلمهم الله بذلك الإهلاك، وإنما ظلموا أنفسهم، وتسببوا في هلاكها. * (ثم كان عاقبة الذين أساءوا) * أي: المسيئين * (السوأى) * أي: الحالة السيئة الشنيعة. وصار ذلك داعيا لهم إلى * (أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها بستهزئون) *. فهذا عقوبة إساءتهم وذنوبهم. ثم ذلك الاستهزاء والتكذيب، يكون سببا لأعظم العقوبات، وأعضل المثلاث. * (الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون * ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون * ولم يكن لهم من شركآئهم شفعاء وكانوا بشركآئهم كافرين * ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون * فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون * وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأول ئك في العذاب محضرون) * يخبر تعالى، أنه المتفرد بإبداء المخلوقات، ثم يعيدهم، ثم إليه يرجعون بعد إعادتهم، ليجازيهم بأعمالهم. ولهذا ذكر جزاء أهل الشر، ثم جزاء أهل الخير، فقال: * (ويوم تقوم الساعة) * ويقوم الناس لرب العالمين، ويردون القيامة عيانا. يومئذ * (يبلس للمجرمون) * أي: ييأسون من كل خير. وذلك لأنهم ما قدموا لذلك اليوم إلا الإجرام، وهو الذنوب، من كفر، وشرك، ومعاصي. فلما قدموا أسباب العقاب، ولم يخلطوها بشيء من أسباب الثواب، أيسوا، وأبلسوا، وأفلسوا، وضل عنهم ما كانوا يفترونه، من نفع شركائهم، وأنهم يشفعون لهم. ولهذا قال: * (ولم يكن لهم من شركائهم) * التي عبدوها مع الله * (شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين) *. تبرأ المشركون ممن أشركوهم مع الله، وتبرأ المعبودون، وقالوا: * (تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون) *، والتعنوا، وابتعدوا. وفي ذلك اليوم يفترق أهل الخير والشر، كما افترقت أعمالهم في الدنيا. * (فأما الذين آمنوا وعلموا الصالحات) * وآمنوا بقلوبهم، وصدقوا ذلك بالأعمال الصالحة * (فهم في روضة) * فيها سائر أنواع النبات وأصناف المشتهيات. * (يحبرون) * أي: يسرون، وينعمون بالمآكل اللذيذة، والأشربة، والحور الحسان، والخدم، والولدان، والأصوات المطربات، والسماع المبهج، والمناظر العجيبة، والروائح الطيبة، والفرح والسرور واللذة والحبور، مما لا يقدر أحد أن يصفه. * (وأما الذين كفروا) * وجحدوا نعمه، وقابلوها بالكفر * (وكذبوا بآياتنا) * التي جاءتهم بها رسلنا * (فأولئك في العذاب محضرون) * فيه. قد أحاطت بهم جهنم من جميع جهاتهم، واطلع العذاب الأليم على أفئدتهم، وشوى الحميم وجوههم، وقطع أمعاءهم. فأين الفرق بين الفريقين، وأين التساوي بين المنعمين والمعذبين؟ * (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون) * هذا إخبار عن تنزهه عن السوء والنقص، وتقدسه عن أن يماثله أحد من الخلق، وأمر للعباد أن يسبحوه، حين يمسون، وحين يصبحون، ووقت العشي، ووقت الظهيرة. فهذه الأوقات الخمسة، أوقات الصلوات الخمس، أمر الله عباده بالتسبيح فيها والحمد. ويدخل في ذلك، الواجب منه، كالمشتملة عليه الصلوات الخمس. والمستحب كأذكار الصباح والمساء، وأدبار الصلوات، وما يقترن بها من النوافل؛ لأن هذه الأوقات التي اختارها الله لأوقات المفروضات، هي أفضل الأوقات. فالتسبيح والتحميد فيها، والعبادة فيها، أفضل من غيرها، بل العبادة، وإن لم تشتمل على قوله: (سبحان الله) فإن الإخلاص فيها، تنزيه لله بالفعل، أن يكون له شريك في العبادة، أو أن يستحق أحد من الخلق، ما يستحقه من الإخلاص والإنابة. * (يخرج الحي من الميت) * كما يخرج
(٦٣٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 633 634 635 636 637 638 639 640 641 642 643 ... » »»