تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٨٢
الصدر، أنه أضاف الملك في يوم القيامة، لاسمه * (الرحمن) * الذي وسعت رحمته كل شيء، وعمت كل حي، وملأت الكائنات، وعمرت بها الدنيا والآخرة، وتم بها كل ناقص، وزال بها كل نقص، وغلبت الأسماء الدالة عليه، الأسماء الدالة على الغضب، وسبقت رحمته غضبه وغلبته، فلها السبق والغلبة. وخلق هذا الآدمي الضعيف، وشرفه، وكرمه، ليتم عليه نعمته، وليتغمده برحمته. وقد حضروا في موقف الذل، والخضوع، والاستكانة بين يديه، ينتظرون ما يحكم فيهم، وما يجري عليهم، وهو أرحم بهم من أنفسهم، ووالديهم، فما ظنك بما يعاملهم به ولا يهلك على الله، إلا هالك، ولا يخرج من رحمته، إلا من غلبت عليه الشقاوة، وحقت عليه كلمة العذاب. * (ويوم يعض الظالم) * بشركه وكفره، وتكذيبه للرسل * (على يديه) * تأسفا، وتحسرا، وحزنا، وأسفا. * (يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا) * أي: طريقا بالإيمان به، وتصديقه واتباعه. * (يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا) * وهو الشيطان الإنسي، أو الجني، * (خليلا) * أي: حبيبا مصافيا، عاديت أنصح الناس لي، وأبرهم بي، وأرفقهم بي. وواليت أعدى عدو لي، الذي لم تفدني ولايته، إلا الشقاء والخسار والخزي، والبوار. * (لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني) * حيث زين له، ما هو عليه من الضلال، بخدعه وتسويله. * (وكان الشيطان للإنسان خذولا) * يزين له الباطل، ويقبح له الحق، ويعده الأماني، ثم يتخلى عنه، ويتبرأ منه، كما قال لجميع أتباعه، حين قضي الأمر، وفرغ الله من حساب الخلق * (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم، وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل) * الآية. فلينظر العبد لنفسه وقت الإمكان، وليتدارك الممكن قبل أن لا يمكن، وليوال من ولايته، فيها سعادته، وليعاد من تنفعه عداوته، وتضره صداقته. والله الموفق. * (وقال الرسول يرب إن قومي اتخذوا ه ذا القرآن مهجورا * وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا) * * (وقال الرسول) * مناديا لربه، وشاكيا له إعراض قومه عما جاء به، ومتأسفا على ذلك منهم: * (يا رب إن قومي) * الذي أرسلتني لهدايتهم وتبغليهم، * (اتخذوا هذا القرآن مهجورا) * أي: قد أعرضوا عنه، وهجروه، وتركوه، مع أن الواجب عليهم، الانقياد لحكمه، والإقبال على أحكامه، والمشي خلفه. قال الله مسليا لرسوله، ومخبرا، أن هؤلاء الخلق، لهم سلف، صنعوا كصنيعهم، فقال: * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين) * أي: من الذين لا يصلحون للخير، ولا يزكون عليه، يعارضونهم، ويردون عليهم، ويجادلونهم بالباطل. من بعض فوائد ذلك، أن يعلو الحق على الباطل، وأن يتبين الحق، ويتضح اتضاحا عظيما لأن معارضة الباطل للحق، مما تزيده وضوحا وبيانا، وكمال استدلال، وأن نتبين ما يفعل الله بأهل الحق من الكرامة، وبأهل الباطل من العقوبة. فلا تحزن عليهم، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات. * (وكفى بربك هاديا) * يهديك، فيحصل لك المطلوب، ومصالح دينك ودنياك. * (ونصيرا) * ينصرك على أعدائك، ويدفع عنك كل مكروه، في أمر الدين والدنيا، فاكتف به، وتوكل عليه. * (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) * هذا من جملة مقترحات الكفار، الذي توحيه إليهم أنفسهم فقالوا: * (لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) * وأي محذور من نزوله على هذا الوجه؟ بل نزوله على هذا الوجه أكمل وأحسن. ولهذا قال: * (كذلك) * أنزلناه متفرقا * (لنثبت به فؤادك) * لأنه كلما نزل عليه شيء من القرآن، ازداد طمأنينة وثباتا، وخصوصا عند ورود أسباب القلق، فإن نزول القرآن عند حدوث السبب، يكون له موقع عظيم، وتثبيت كثير، أبلغ مما لو كان نازلا قبل ذلك، ثم تذكره عند حلول سببه. * (ورتلناه ترتيلا) * أي: مهلناه، ودرجناك فيه تدريجا. وهذا كله يدل على اعتناء الله بكتابه القرآن، وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، حيث جعل إنزال كتابه، جاريا على أحوال الرسول ومصالحه الدينية. ولهذا قال: * (ولا يأتونك بمثل) * يعارضون به الحق، ويدفعون به رسالتك. * (إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) * أي: أنزلنا عليك قرآنا جامعا للحق في معانيه، والوضوح، والبيان التام في ألفاظه، فمعانيه كلها، حق وصدق، لا يشوبها باطل ولا شبهة، بوجه من الوجوه. وألفاظه وحدوده للأشياء، أوضح ألفاظا، وأحسن تفسيرا، مبين للمعاني بيانا كاملا. وفي هذه الآية، دليل على أنه ينبغي للمتكلم في العلم، من محدث،
(٥٨٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 577 578 579 580 581 582 583 584 585 586 587 ... » »»