هؤلاء ينطقون) * أي: هذا أمر متقرر من حالها، لا يقبل الإشكال والشك. فلجؤوا إلى تقليد آبائهم الضالين، فقالوا: * (بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) *، فتبعناهم على ذلك، وسلكنا سبيلهم، وحافظنا على عاداتهم. فقال لهم إبراهيم: أنتم وآباؤكم، كلكم خصوم في الأمر، والكلام مع الجميع واحد. * (أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي) * فليضروني بأدنى شيء من الضرر، وليكيدوني، فلا يقدرون. * (إلا رب العالمين * الذي خلقني فهو يهدين) * هو المتفرد بنعمة الخلق، ونعمة الهداية للمصالح الدينية والدنيوية. ثم خصص منها بعض الضروريات فقال: * (والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * والذي يميتني ثم يحيين * والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) *. فهذا هو وحده المنفرد بذلك، فيجب أن يفرد بالعبادة والطاعة، وتترك هذه الأصنام، التي لا تخلق، ولا تهدي، ولا تمرض، ولا تشفي، ولا تطعم ولا تسقي، ولا تميت، ولا تحيي، ولا تنفع عابديها، بكشف الكروب، ولا مغفرة الذنوب. فهذا دليل قاطع، وحجة باهرة، لا تقدرون أنتم وآباؤكم على معارضتها، فدل على اشتراككم في الضلال، وترككم طريق الهدى والرشد. قال الله تعالى: * (وحاجه قومه قال: أتحاجوني في الله وقد هداني) * الآيات. ثم دعا عليه السلام ربه فقال: * (رب هب لي حكما) * أي: علما كثيرا، أعرف به الأحكام، والحلال والحرام، وأحكم به بين الأنام. * (وألحقني بالصالحين) * من إخوانه الأنبياء، والمرسلين. * (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) * أي: اجعل لي ثناء صدق، مستمر إلى آخر الدهر. فاستجاب الله دعاءه، فوهب له من العلم والحكم، ما كان به من أفضل المرسلين، وألحق بإخوانه المرسلين، وجعله محبوبا مقبولا، معظما مثنيا عليه، في جميع الملل، في كل الأوقات. قال تعالى: * (وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم * كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين) *. * (واجعلني من ورثة جنة النعيم) * أي: من أهل الجنة، التي يورثهم الله إياها، فأجاب الله دعاءه، فرفع منزلته في جنات النعيم. * (واغفر لأبي إنه كان من الضالين) * وهذا الدعاء، بسبب الوعد الذي قال لأبيه: * (لأستغفرن لك ربي إنه كان بي حفيا) *. قال تعالى: * (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله، تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم) *. * (ولا تخزني يوم يبعثون) * أي: بالتوبيخ على بعض الذنوب، والعقوبة عليها، والفضيحة. بل أسعدني في ذلك اليوم الذي فيه * (لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم) * فهذا الذي ينفعه عندك، وهذا الذي ينجو به من العقاب، ويستحق جزيل الثواب. والقلب السليم، معناه، الذي سلم من الشرك والشك، ومحبة الشر، والإصرار على البدعة، والذنوب، ويلزم من سلامته مما ذكر، اتصافه بأضدادها، من الإخلاص، والعلم، واليقين، ومحبة الخير، وتزيينه في قلبه. وأن تكون إرادته ومحبته، تابعة لمحبة الله، وهواه، تابعا لما جاء عن الله. ثم ذكر من صفات ذلك اليوم العظيم، وما فيه من الثواب والعقاب فقال: * (وأزلفت الجنة) * أي: قربت * (للمتقين) * ربهم، الذين امتثلوا أوامره، واجتنبوا زواجره، واتقوا سخطه وعقابه. * (وبرزت الجحيم) * أي: برزت، واستعدت بجميع ما فيها من العذاب، * (للغاوين) * الذين أوضعوا في معاصي الله، وتجرؤوا على محارمه، وكذبوا رسله، وردوا ما جاؤوهم به من الحق. * (وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون * من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون) * بأنفسهم أي: فلم يكن من ذلك من شيء. وظهر كذبهم وخزيهم، ولاحت خسارتهم وفضيحتهم، وبان ندمهم، وضل سعيهم. * (فكبكبوا فيها) * أي: ألقوا في النار * (هم) * أي: ما كانوا يعبدون. * (والغاوون) * العابدون لها. * (وجنود إبليس أجمعون) * من الإنس والجن، الذين أزهم إلى المعاصي أزا، وتسلط عليهم بشركهم وعدم إيمانهم، فصاروا من دعاته، والساعين في مرضاته، وهم ما بين داع لطاعته، ومجيب لهم، ومقلد لهم على شركهم. * (قالوا) * أي: جنود إبليس الغاوون، لأصنامهم، وأوثانهم التي عبدوها: * (تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين) * في العبادة والمحبة، والخوف، والرجاء، وندعوكم كما ندعوه، فتبين لهم حينئذ، ضلالهم، وأقروا بعدل الله في عقوبتهم، وأنها في محلها، وهم لم يسووهم برب العالمين، إلا في العبادة، لا في الخلق بدليل قولهم * (برب العالمين) * إنهم مقرون أن الله رب العالمين كلهم، الذين من جملتهم أصنامهم وأوثانهم. * (وما أضلنا) * عن طريق الهدى والرشد، ودعانا إلى طريق الغي
(٥٩٣)