تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٨٥
به، بل ابذل جهدك، في تبليغ ما أرسلت به. * (وجاهدهم) * بالقرآن * (جهادا كبيرا) * أي: لا تبق من مجهودك في نصر الحق، وقمع الباطل، إلا بذلته، ولو رأيت منهم، من التكذيب والجراءة، ما رأيت، فابذل جهدك، واستفرغ وسعك، ولا تيأس من هدايتهم، ولا تترك إبلاغهم، لأهوائهم. * (وهو الذي مرج البحرين ه ذا عذب فرات وه ذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا) * أي: وهو وحده الذي مرج البحرين يلتقيان، البحر العذب، وهي الأنهار السارحة على وجه الأرض، والبحر الملح، وجعل منفعة كل واحد منهما مصلحة للعباد. * (وجعل بينهما برزخا) * أي: حاجزا يحجز من اختلاط أحدهما بالآخر، فتذهب المنفعة المقصودة منها * (وحجرا محجورا) * أي: حاجزا حصينا. * (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا) * أي: وهو الله وحده لا شريك له، الذي خلق الآدمي، من ماء مهين ثم نشر منه ذرية كثيرة، وجعلهم أنسابا وأصهارا، متفرقين ومجتمعين، والمادة كلها من ذلك الماء المهين، فهذا يدل على كمال اقتداره، لقوله: * (وكان ربك قديرا) *. * (ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا) * ويدل على أن عبادته، هي الحق، وعبادة غيره، باطلة لقوله: * (ويعبدون من دون الله) * إلى * (ظهيرا) *. أي: يعبدون أصناما، وأمواتا لا تضر ولا تنفع، ويجعلونها أندادا لمالك النفع والضرر، والعطاء والمنع مع أن الواجب عليهم، أن يكونوا مقتدين بإرشادات ربهم، ذابين عن دينه، ولكنهم عكسوا القضية. * (وكان الكافر على ربه ظهيرا) * فالباطل الذي هو الأوثان والأنداد، أعداء لله. فالكافر عاونها، وظاهرها على ربها، وصار عدوا لربه، مبارزا له في العداوة والحرب. وهذا وهو الذي خلقه ورزقه، وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة، وليس يخرج عن ملكه، وسلطانه، وقبضته. والله لم يقطع عنه إحسانه وبره، وهو بجهله مستمر على هذه المعاداة والمبارزة. * (ومآ أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا * قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا * وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا * الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحم ن فاسأل به خبيرا * وإذا قيل لهم اسجدوا للرحم ن قالوا وما الرحم ن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا) * يخبر تعالى: أنه ما أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، مسيطرا على الخلق، ولا جعله ملكا، ولا عنده خزائن الأشياء، وأنما أرسله * (مبشرا) * يبشر من أطاع الله، بالثواب العاجل، والآجل، * (ونذيرا) * ينذر من عصى الله، بالعقاب العاجل، والآجل، وذلك مستلزم، لتبيين ما به البشارة، وما تحصل به النذارة، من الأوامر والنواهي. وإنك، يا محمد، لا تسألهم على إبلاغهم القرآن والهدى، أجرا، حتى يمنعهم ذلك، من اتباعك، ويتكلفون من الغرامة. * (إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا) * أي: إلا من شاء، أن ينفق نفقة في مرضاة ربه وسبيله، فهذا وإن رغبتكم فيه، فلست أجبركم عليه، وليس أيضا أجرا لي عليكم وإنما هو راجع لمصلحتكم، وسلوككم للسبيل الموصلة إلى ربكم. ثم أمره أن يتوكل عليه، ويستعين به فقال: * (وتوكل على الحي) * الذي له الحياة الكاملة المطلقة * (الذي لا يموت وسبح بحمده) * أي: اعبده، وتوكل عليه في الأمور المتعلقة بك، والمتعلقة بالخلق. * (وكفى به بذنوب عباده خبيرا) * يعلمها، ويجازي عليها، فأنت، ليس عليك من هداهم شيء، وليس عليك حفظ أعمالهم. وإنما ذلك كله، بيد الله * (الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى) * بعد ذلك * (على العرش) * الذي هو سقف المخلوقات، وأعلاها، وأوسعها، وأجملها * (الرحمن) * استوى على عرشه، الذي وسع السماوات والأرض، باسمه الرحمن، الذي وسعت رحمته كل شيء فاستوى على أوسع المخلوقات، بأوسع الصفات. وأثبت بهذه الآية، خلقه للمخلوقات، واطلاعه على ظاهرهم وباطنهم، وعلوه فوق العرش، ومباينته إياهم. * (فاسأل به خبيرا) * يعني بذلك، نفسه الكريمة، فهو الذي يعلم أوصافه، وعظمته، وجلاله، وقد أخبركم بذلك، وأبان لكم من عظمته، ما تستعدون به من معرفته، فعرفه العارفون، وخضعوا لجلاله. واستكبر عن عبادته الكافرون، واستنكفوا عن ذلك، ولهذا قال: * (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن) * أي: وحده، الذي أنعم عليكم بسائر النعم، ودفع عنكم جميع النقم. * (قالوا) * جحدا وكفرا * (وما الرحمن) * بزعمهم الفاسد، أنهم لا يعرفون الرحمن. وجعلوا من جملة قوادحهم في الرسول، أن قالوا: ينهانا عن اتخاذ آلهة مع الله، وهو يدعو معه إلها آخر، يقول: (يا رحمن) ونحو ذلك، كما قال تعالى: * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) *، فأسماؤه تعالى كثيرة، لكثرة أوصافه، وتعدد كماله،
(٥٨٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 580 581 582 583 584 585 586 587 588 589 590 ... » »»