فكل واحد منها، دل على صفة كمال. * (أنسجد لما تأمرنا) * أي: لمجرد أمرك إيانا. وهذا مبني منهم على التكذيب بالرسول، واستكبارهم عن طاعته، * (وزادهم) * دعوتهم إلى السجود للرحمن * (نفورا) * هربا من الحق إلى الباطل، وزيادة كفر وشقاء. * (تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) * كرر تعالى في هذه السورة الكريمة قوله: * (تبارك) * ثلاث مرات، لأن معناها كما تقدم، أنها تدل على عظمة الباري، وكثرة أوصافه، وكثرة خيراته وإحسانه. وهذه السورة، فيها من الاستدلال على عظمته، وسعة سلطانه، ونفوذ مشيئته، وعموم علمه وقدرته، وإحاطة ملكه في الأحكام الأمرية الجزائية وكمال حكمته. وفيها، ما يدل على سعة رحمته، وواسع جوده، وكثرة خيراته، الدينية والدنيوية، ما هو مقتض لتكرار هذا الوصف الحسن فقال: * (تبارك الذي جعل في السماء بروجا) * وهي: النجوم، عمومها أو منازل الشمس والقمر التي تنزل منزلة منزلة، وهي بمنزلة البروج، والقلاع للمدن في حفظها. كذلك النجوم بمنزلة البروج المجعولة للحراسة فإنها رجوم للشياطين. * (وجعل فيها سراجا) * فيه النور والحرارة، وهي: الشمس. * (وقمرا منيرا) * فيه النور، لا الحرارة، وهذا من أدلة عظمته، وكثرة إحسانه، فإن ما فيها من الخلق الباهر، والتدبير المنتظم، والجمال العظيم، دال على عظمة خالقها في أوصافه كلها، وما فيها من المصالح للخلق، والمنافع، دليل على كثرة خيراته. * (هو الذي جعل الليل والنهار خلفة) * أي: يذهب أحدهما، فيخلفه الآخر، وهكذا أبدا، لا يجتمعان، ولا يرتفعان. * (لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) * أي: لمن أراد أن يتذكر بهما ويعتبر، ويستدل بهما على كثير من المطالب الإلهية، ويشكر الله على ذلك، ولمن أراد أن يذكر الله ويشكره، ورد من الليل أو النهار، فمن فاته ورده من أحدهما، أدركه في الآخر، وأيضا فإن القلوب تتقلب وتنتقل، في ساعات الليل والنهار، فيحدث لها النشاط والكسل، والذكر والغفلة، والقبض والبسط، والإقبال والإعراض، فجعل الله الليل والنهار، يتوالى كل منهما على العباد، ويتكرران، ليحدث لهم الذكر والنشاط، والشكر لله في وقت آخر، ولأن أوقات العبادات، تتكرر بتكرر الليل والنهار، فكلما تكررت الأوقات، أحدث للعبد همة غير همته، التي كسلت عنه، في الوقت المتقدم، فزاد في تذكرها وشكرها، فوظائف الطاعات، بمنزلة سقي الإيمان، الذي يمده، فلولا ذلك، لذوي غرس الإيمان ويبس. فلله أتم حمد، وأجمله على ذلك. * (وعباد الرحم ن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما * والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما * والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما * إنها سآءت مستقرا ومقاما * والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما * والذين لا يدعون مع الله إل ها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأول ئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما * ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا * والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما * والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا * والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما * أول ئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما * خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما * قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما) * ثم ذكر من جملة كثرة خيره، منته على عباده الصالحين، وتوفيقهم للأعمال الصالحات، التي أكسبتهم المنازل العاليات، في غرف الجنات فقال: * (وعباد الرحمن) * إلى * (فسوف يكون لزاما) *. العبودية لله نوعان: عبودية لربوبيته، فهذه يشترك فيها سائر الخلق، مسلمهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، فكلهم عبيد لله مربوبون مدبرون * (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) * وعبودية لألوهيته، وعبادته، ورحمته، وهي: عبودية أنبيائه، وأوليائه، وهي المراد هنا، ولهذا أضافها إلى اسمه (الرحمن) إشارة إلى أنهم إنما وصلوا إلى هذه الحال، بسبب رحمته، فذكر أن صفاتهم أكمل الصفات، ونعوتهم أفضل النعوت، فوصفهم بأنهم * (يمشون على الأرض هونا) * أي: ساكنين متواضعين لله، وللخلق، فهذا وصف لهم، بالوقار، والسكينة، والتواضع لله، ولعباده. * (وإذا خاطبهم الجاهلون) * أي: خطاب جهل، بدليل إضافة الفعل، وإسناده لهذا الوصف، * (قالوا سلاما) * أي: خاطبوهم خطابا يسلمون فيه، من الإثم، ويسلمون من مقابلة الجاهل بجهله. وهذا مدح لهم، بالحلم الكثير، ومقابلة المسئ بالإحسان، والعفو عن الجاهل، ورزانة العقل الذي أوصلهم إلى هذه الحال. * (والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) * أي: يكثرون من صلاة الليل، مخلصين فيها لربهم، متذللين له، كما قال تعالى: * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) *. * (والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم) * أي: ادفعه عنا، بالعصمة من أسبابه، ومغفرة ما وقع منا، مما هو مقتض للعذاب. * (إن عذابها كان غراما) * أي: ملازما لأهلها، بمنزلة ملازمة الغريم لغريمه. * (إنها ساءت مستقرا ومقاما) * وهذا منهم، على وجه التضرع لربهم، وبيان شدة حاجتهم إليه، وأنهم ليس في طاقتهم احتمال هذا العذاب، وليتذكروا منة الله عليهم، فإن صرف الشدة، بحسب شدتها وفظاعتها، يعظم وقعها ويشتد الفرح بصرفها. * (والذين إذا أنفقوا) * النفقات الواجبة والمستحبة * (لم يسرفوا) * بأن يزيدوا على الحد، فيدخلوا في قسم التبذير، وإهمال الحقوق الواجبة، * (ولم يقتروا) * فيدخلوا في باب البخل والشح * (وكان) * إنفاقهم * (بين ذلك) * بين الإسراف والتقتير * (قواما) * يبذلون في الواجبات من الزكوات، والكفارات، والنفقات الواجبة، وفيما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، من
(٥٨٦)