تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٨٤
عليها) * والصبر يحمد في المواضع كلها، إلا في هذا الموضع، فإنه صبر على أسباب الغضب، وعلى الاستكثار من حطب جهنم. وأما المؤمنون، فهم كما قال الله عنهم: * (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) *. ولما كان هذا، حكما منهم، بأنهم المهتدون، والرسول ضال، وقد تقرر أنهم لا حيلة فيهم، توعدهم بالعذاب، وأخبر أنهم في ذلك الوقت * (حين يرون العذاب) * يعلمون علما حقيقيا * (من أضل سبيلا) * * (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا) * الآيات. وهل فوق ضلال من جعل إلهه هواه، فما هويه، فعله، فلهذا قال: * (أرأيت من اتخذ إلهه هواه) * ألا تعجب من حاله، وتنظر ما هو فيه من الضلال؟ وهو يحكم لنفسه بالمنازل الرفيعة؟ * (أفأنت تكون عليه وكيلا) * أي: لست عليه بمسيطر مسلط، بل إنما أنت منذر. قد قمت بوظيفتك، وحسابه على الله. ثم سجل تعالى على ضلالهم البليغ، بأن سلبهم العقول والأسماع، وشبههم في ضلالهم بالأنعام السائمة، التي لا تسمع، إلا دعاء ونداء، صم، بكم، عمي فهم لا يعقلون، بل هم أضل من الأنعام، فإن الأنعام يهديها راعيها فتهتدي، وتعرف طريق هلاكها، فتجتنبه، وهي أيضا أسلم عاقبة من هؤلاء. فتبين بهذا، أن الرامي للرسول بالضلال، أحق بهذا الوصف، وأن كل حيوان بهيم، فهو أهدى منه. * (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا * ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا) * أي: ألم تشاهد ببصرك وبصيرتك، كمال قدرة ربك، وسعة رحمته، أنه مد على العباد، الظل، وذلك قبل طلوع الشمس * (ثم جعلنا الشمس عليه) * أي: على الظل * (دليلا) *، فلولا وجود الشمس، لما عرف الظل، فإن الضد يعرف بضده. * (ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا) * فكلما ارتفعت الشمس، تقلص الظل، شيئا فشيئا، حتى يذهب بالكلية، فتوالي الظل والشمس على الخلق، الذي يشاهدونه عيانا، وما يترتب على ذلك، من اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما، وتعاقب الفصول، وحصول المصالح الكثيرة، بسبب ذلك من أدل دليل، على قدرة الله وعظمته، وكمال رحمته، وعنايته بعباده، وأنه وحده، المعبود المحمود، المحبوب المعظم، ذو الجلال والإكرام. * (وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا) * أي: من رحمته بكم ولطفه، أن جعل الليل لكم بمنزلة اللباس، الذي يغشاكم، حتى تستقروا فيه، وتهدؤوا بالنوم، وتسبت حركاتكم، أي: تنقطع عند النوم. فلولا الليل، لما سكن العباد، ولا استمروا في تصرفهم، فضرهم ذلك غاية الضرر، ولو استمر أيضا الظلام لتعطلت عليهم، معايشهم، ومصالحهم، ولكنه جعل النهار نشورا ينتشرون فيه، لتجاراتهم، وأسفارهم، وأعمالهم، فيقوم بذلك، ما يقوم من المصالح. * (وهو الذي أرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا * لنحي ي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنآ أنعاما وأناسي كثيرا * ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا) * أي: هو وحد، الذي رحم عباده، وأدر عليهم رزقه، بأن أرسل الرياح مبشرات، بين يدي رحمته، وهو: المطر، فثار بها السحاب، وتألف، وصار كسفا، وألحقته، وأدرته بإذن ربها، والمتصرف فيها، ليقع استبشار العباد بالمطر، قبل نزوله، وليستعدوا له، قبل أن يفاجئهم دفعة واحدة. * (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) * يطهر من الحدث، والخبث، ويطهر من الغش والأدناس، وفيه بركة من بركته، أنه أنزله ليحيي به، بلدة ميتا، فتختلف أصناف النباتات، والأشجار فيها، مما يأكل الناس والأنعام. * (ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناس كثيرا) * أي: نسقيكموه، أنتم وأنعامكم، أليس الذي أرسل الرياح المبشرات، وجعلها، في عملها متنوعات، وأنزل من السماء، ماء طهورا مباركا، فيه رزق العباد، ورزق بهائمهم، هو الذي يستحق أن يعبد، وحده، ولا يشرك معه غيره؟ ولما ذكر تعالى هذه الآيات العيانية المشاهدة، وصرفها للعباد، ليعرفوه، ويشكروه، ويذكروه مع ذلك * (فأبى أكثر الخلق إلا كفورا) * لفساد أخلاقهم وطبائعهم. * (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا * فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا) * يخبر تعالى، عن نفوذ مشيئته، وأنه لو شاء، لبعث في كل قرية نذيرا، أي: رسولا، ينذرهم، ويحذرهم فمشيئته، غير قاصرة على ذلك. ولكن اقتضت حكمته، ورحمته بك، وبالعباد، يا محمد أن أرسلك إلى جميعهم، أحمرهم، أسودهم، عربيهم، وعجميهم، إنسهم وجنهم. * (فلا تطع الكافرين) * في ترك شيء مما أرسلت
(٥٨٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 579 580 581 582 583 584 585 586 587 588 589 ... » »»