واستهزاء. * (يأكل الطعام) * وهذا من خصائص البشر، فهلا كان ملكا، لا يأكل الطعام، ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر. * (ويمشي في الأسواق) * للبيع والشراء، وهذا بزعمهم لا يليق بمن يكون رسولا، مع أن الله قال: * (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) *. * (لولا أنزل إليه ملك) * أي: هلا أنزل معه ملك يساعده ويعاونه. * (فيكون معه نذيرا) * وبزعمهم أنه غير كاف للرسالة، ولا بطوقه وقدرته القيام بها. * (أو يلقى إليه كنز) * أي: ما مجموع من غير تعب. * (أو تكون له جنة يأكل منها) * فيستغني بذلك عن مشيه في الأسواق لطلب الرزق. * (وقال الظالمون) * حملهم على القول، ظلمهم لا اشتباه منهمه. * (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) * هذا، وقد علموا كمال عقله، وحسن حديثه، وسلامته من جميع المطاعن. ولما كانت هذه الأقوال منهم، عجيبة جدا، قال تعالى: * (انظر كيف ضربوا لك الأمثال) * وهي: هل كان ملكا، وزالت عنه خصائص البشر؟ أو معه ملك، لأنه غير قادر على ما قال، أو أنزل عليه كنز، أو جعلت له جنة تغنيه عن المشي في الأسواق، أو أنه كان مسحورا. * (فضلوا فلا يستطيعون سبيلا) * قالوا: أقوالا متناقضة، كلها جهل، وضلال، وسفه، ليس في شيء منها هداية، بل ولا في شيء منها أدنى شبهة، تقدح في الرسالة. فبمجرد النظر إليها وتصورها، يجزم العاقل ببطلانها، ويكفيه عن ردها. ولهذا أمر تعالى بالنظر إليها، وتدبرها، والنظر: هل توجب التوقف عن الجزم للرسول بالرسالة والصدق؟ ولهذا أخبر أنه قادر على أن يعطيه خيرا كثيرا في الدنيا فقال: * (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك) * أي: خيرا مما قالوا، ثم فسره بقوله: * (جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا) * مرتفعة مزخرفة، فقدرته ومشيئته، لا تقصر عن ذلك، ولكنه تعالى لما كانت الدنيا عنده في غاية البعد والحقارة أعطى منها أولياءه ورسله، ما اقتضته حكمته منها. واقتراح أعدائهم بأنهم، هلا رزقوا منها رزقا كثيرا جدا، ظلم وجراءة. ولما كانت تلك الأقوال، التي قالوها، معلومة الفساد، وأخبر تعالى أنها لم تصدر منهم لطلب الحق، ولا لاتباع البرهان، وإنما صدرت منهم تعنتا وظلما، وتكذيبا بالحق، قالوا ما في قلوبهم من ذلك، ولهذا قال: * (بل كذبوا بالساعة) *، والمكذب المتعنت، الذي ليس له قصد في اتباع الحق، لا سبيل إلى هدايته، ولا حيلة في مجادلته وإنما له حيلة واحدة، وهي نزول العذاب به، فلهذا قال: * (وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا) * أي: نارا عظيمة، قد اشتد سعيرها، وتغيظت على أهلها، واشتد زفيرها. * (إذا رأتهم من مكان بعيد) * أي: قبل وصولهم، ووصولها إليهم * (سمعوا لها تغيظا) * عليهم * (وزفيرا) * تقلق منهم الأفئدة، وتتصدع القلوب، ويكاد الواحد منهم، يموت خوفا منها، وذعرا، قد غضبت عليهم، لغضب خالقها، وقد زاد لهبها، لزيادة كفرهم وشرهم. * (وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين) * أي: وقت عذابهم، وهم في وسطها، جمع في مكان بين ضيق المكان، وتزاحم السكان وتقرينهم بالسلاسل والأغلال. فإذا وصلوا لذلك المكان النحس، وحبسوا في أشر حبس * (دعوا هنالك ثبورا) * دعوا على أنفسهم بالثبور، والخزي والفضيحة، وعلموا أنهم ظالمون معتدون، قد عدل فيهم الخالق، حيث أنزلهم بأعمالهم هذا المنزل، وليس ذلك الدعاء والاستغاثة بنافعة لهم، ولا مغنية من عذاب الله. بل يقال لهم: * (لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا) * أي: لو زاد ما قلتم أضعاف أضعافه، ما أفادكم إلا الهم، والغم، والحزن. * (قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا * لهم فيها ما يشآءون خالدين كان على ربك وعدا مسؤولا) * لما بين جزاء الظالمين، ناسب أن يذكر جزاء المتقين فقال: * (قل أذلك خير) * إلى * (وعدا مسؤولا) *. أي: قل لهم مبينا لسفاهة رأيهم، واختيارهم الضار على النافع * (أذلك) * الذي وضعت لكم من العذاب * (خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون) * التي زادها تقوى الله، فمن قام بالتقوى، فالله قد وعده إياها. * (كانت لهم جزاء) * على تقواهم * (ومصيرا) * موئلا يرجعون إليها، ويستقرون فيها، ويخلدون دائما أبدا. * (لهم فيها ما يشاؤون) * أي: ما يطلبون وتتعلق بهم أمانيهم ومشيئتهم، من المطاعم، والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والنساء الجميلات، والقصور العاليات، والجنات، والحدائق المرجحنة والفواكه، التي تسر ناظريها وآكليها، من حسنها، وتنوعها، وكثرة أصنافها، والأنهار التي تجري في رياض الجنة، وبساتينها، حيث شاؤوا يصرفونها، ويفجرونها أنهارا من ماء غير آسن، وأنهارا من لبن لم يتغير طعمه، وأنهارا من خمر لذة للشاربين وأنهارا من عسل مصفى، وروائح طيبة، ومساكن،
(٥٧٩)