تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٨٧
غير ضرر ولا ضرار، وهذا من عدلهم واقتصادهم. * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) * بل يعبدونه وحده، مخلصين له الدين، حنفاء، مقبلين عليه، معرضين عما سواه. * (ولا يقتلون النفس التي حرم الله) * وهو نفس المسلم، الكافر المعاهد، * (إلا بالحق) * كقتل النفس بالنفس، وقتل الزاني المحصن، والكافر الذي يحل قتله. * (ولا يزنون) * بل يحفظون فروجهم * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) *. * (ومن يفعل ذلك) * أي: الشرك بالله، أو قتل النفس، التي حرم الله بغير حق، أو الزنا، فسوف * (يلق أثاما) *. ثم فسره بقوله: * (ويضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه) * أي: في العذاب * (مهانا) *. فالوعيد بالخلود، لمن فعلها كلها، ثابت لا شك فيه، وكذا لمن أشرك بالله. وكذلك الوعيد بالعذاب الشديد على كل واحد من هذه الثلاثة، لكونها، إما شرك، وإما من أكبر الكبائر. وأما خلود القاتل والزاني في العذاب، فإنه لا يتناوله الخلود، لأنه قد دلت النصوص القرآنية، والسنة النبوية، أن جميع المؤمنين سيخرجون من النار، ولا يخلد فيها مؤمن، ولو فعل من المعاصي ما فعل. ونص تعالى على هذه الثلاثة، لأنها أكبر الكبائر: فالشرك، فيه فساد الأديان، والقتل، فيه فساد الأبدان، والزنا، فيه فساد الأعراض. * (إلا من تاب) * عن هذه المعاصي وغيرها، بأن أقلع عنها في الحال، وندم على ما مضى له من فعلها، وعزم عزما جازما أن لا يعود. * (وآمن) * بالله إيمانا صحيحا، يقتضي ترك المعاصي، وفعل الطاعات. * (وعمل عملا صالحا) * مما أمر به الشارع، إذا قصد به وجه الله. * (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) * أي: تتبدل أفعالهم، التي كانت مستعدة لعمل السيئات، تتبدل حسنات. فيتبدل شركهم إيمانا، ومعصيتهم طاعة، وتتبدل نفس السيئات، التي عملوها ، ثم أحدثوا عن كل ذنب منها توبة، وإنابة، وطاعة، تبدل حسنات، كما هو ظاهر الآية. وورد في ذلك، حديث الرجل الذي حاسبه الله ببعض ذنوبه، فعددها عليه، ثم أبدل مكان كل سيئة حسنة فقال: (يا رب إن لي سيئات لا أراها ههنا) والله أعلم. * (وكان الله غفورا) * لمن تاب، يغفر الذنوب العظيمة * (رحيما) * بعباده، حيث دعاهم إلى التوبة بعد مبارزته بالعظائم، ثم وفقهم لها، ثم قبلها منهم. * (ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا) * أي: فليعلم أن توبته، في غاية الكمال، لأنها رجوع إلى الطريق الموصل إلى الله، الذي هو عين سعادة العبد وفلاحه، فليخلص فيها، وليخلصها من شوائب الأغراض الفاسدة. فالمقصود من هذا، الحث على تكميل التوبة، واتباعها على أفضل الوجوه وأجلها، ليقدم على من تاب إليه، فيوفيه أجره، بحسب كمالها. * (والذين لا يشهدون الزور) * أي: لا يحضرون الزور، أي: القول والفعل المحرم، فيجتنبون جميع المجالس، المشتملة على الأقوال المحرمة، أو الأفعال المحرمة، كالخوض في آيات الله، والجدال الباطل، والغيبة، والنميمة، والسب، والقذف، والاستهزاء، والغناء المحرم، وشرب الخمر، وفرش الحرير، والصور، ونحو ذلك. وإذا كانوا لا يشهدون الزور، فمن باب أولى وأحرى، أن لا يقولوه ويفعلوه. وشهادة الزور داخلة في قول الزور، تدخل في هذه الآية بالأولوية، * (وإذا مروا باللغو) * وهو الكلام الذي لا خير فيه، ولا فيه فائدة دينية، ولا دنيوية، ككلام السفهاء ونحوهم * (مروا كراما) * أي: نزهوا أنفسهم، وأكرموها عن الخوض فيه، ورأوا أن الخوض فيه، وإن كان لا إثم فيه، فإنه سفه ونقص للإنسانية والمروءة، فربؤوا بأنفسهم عنه. وفي قوله: * (وإذا مروا باللغو) * إشارة إلى أنهم لا يقصدون حضوره، ولا سماعه، ولكن عند المصادفة، التي من غير قصد، يكرمون أنفهسم عنه. * (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم) * التي أمرهم باستماعها، والاهتداء بها، * (لم يخروا عليها صما وعميانا) * أي: لم يقابلوها بالإعراض عنها، والصمم عن سماعها، وصرف النظر والقلوب عنها، كما يفعله، من لم يؤمن بها ولم يصدق. وإنما حالهم فيها، وعند سماعها، كما قال تعالى: * (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون) *، يقابلونها بالقبول والافتقار إليها، والانقياد، والتسليم لها. وتجد عندهم آذانا سامعة، وقلوبا واعية، فيزداد بها إيمانهم، ويتم بها، إيقانهم، وتحدث لهم نشاطا، ويفرحون بها سرورا واغتباطا. * (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا) * أي: قرنائنا من أصحاب وأقران، وزوجات. * (وذرياتنا قرة أعين) * أي: تقر بهم أعيننا. وإذا استقرأنا حالهم وصفاتهم، عرفنا من هممهم، وعلو مرتبتهم، أن دعاءهم لذرياتهم، في صلاحهم، فإنه دعاء لأنفسهم، لأن نفعه يعود عليهم، ولهذا جعلوا ذلك، هبة لهم فقالوا: * (هب لنا) * بل دعاؤهم يعود إلى نفع عموم المسلمين، لأن صلاح من ذكر، يكون سببا لصلاح كثير ممن يتعلق بهم، وينتفع بهم.
(٥٨٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 582 583 584 585 586 587 588 589 590 591 592 ... » »»