ومعلم، وواعظ، أن يقتدي بربه، في تدبيره، حال رسوله. كذلك العالم، يدبر أمر الخلق، وكلما حدث موجب، أو حصل موسم، أتى بما يناسب ذلك، من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والمواعظ الموافقة لذلك. وفيه رد على المتكلفين، من الجهمية ونحوهم، ممن يرى أن كثيرا من نصوص القرآن محمولة على غير ظاهرها، ولها معان غير ما يفهم منها. فإذا على قولهم لا يكون القرآن أحسن تفسيرا من غيره، وإنما التفسير الأحسن على زعمهم تفسيرهم الذي حرفوا له المعاني تحريفا. * (الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أول ئك شر مكانا وأضل سبيلا) * يخبر تعالى، عن حال المشركين الذين كذبوا رسوله، وسوء مآلهم وأنهم * ( يحشرون على وجوههم) * في أشنع مرأى، وأفظع منظر، تسحبهم ملائكة العذاب، ويجرونهم * (إلى جهنم) * الجامعة لكل عذاب وعقوبة. * (أولئك) * الذين بهذه الحال * (شر مكانا) * ممن آمن بالله وصدق رسله. * (وأضل سبيلا) * وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل، فيما ليس في الطرف الآخر منه شيء، فإن المؤمنين، حسن مكانهم، ومستقرهم، واهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم، وفي الآخرة إلى الوصول، إلى جنات النعيم. * (ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا * فقلنا اذهبآ إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا * وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما * وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا * وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا * ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا) * أشار تعالى إلى هذه القصص، وقد بسطها في آيات أخر، ليحذر المخاطبين، من استمرارهم على تكذيب رسولهم، فيصيبهم ما أصاب هؤلاء الأمم، الذين كانوا قريبا منهم، ويعرفون قصصهم، بما استفاض واشتهر عنهم. ومنهم من يرون آثارهم، عيانا، كقوم صالح في الحجر، وكالقرية التي أمطرت مطر السوء، بحجارة من سجيل، يمرون عليهم، مصبحين، وبالليل في أسفارهم. فإن أولئك الأمم، ليسوا شرا منهم، ورسلهم، ليسوا خيرا من رسول هؤلاء. * (أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر) *. ولكن الذي منع هؤلاء من الإيمان مع ما شاهدوا من الآيات أنهم كانوا لا يرجون بعثا ولا نشورا، فلا يرجون لقاء ربهم، ولا يخشون نكاله، فلذلك استمروا على عنادهم، وإلا، فقد جاءهم من الآيات، ما لا يبقى معه شك ولا شبهة، ولا إشكال، ولا ارتياب. * (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أه ذا الذي بعث الله رسولا * إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا * أرأيت من اتخذ إل هه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا * أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) * * (وإذا رأوك) * يا محمد، أي: هؤلاء المكذبون لك، المعاندون لآيات الله، المستكبرون في الأرض، استهزؤوا بك، واحتقروك، وقالوا على وجه الاحتقار والاستصغار: * (أهذا الذي بعث الله رسولا) * أي: غير مناسب، ولا لائق، أن يبعث الله هذا الرجل، وهذا من شدة ظلمهم وعنادهم، وقلبهم الحقائق، فإن كلامهم هذا يفهم أن الرسول حاشاه في غاية الخسة والحقارة، وأنه لو كنت الرسالة لغيره، لكان أنسب. * (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) *، فهذا الكلام، لا يصدر إلا من أجهل الناس وأضلهم، أو من أعظمهم عنادا، وهو متجاهل، قصده، ترويج ما معه من الباطل، بالقدح بالحق، وبمن جاء به، وإلا، فمن تدبر أحوال محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وجده رجل العالم، وهمامهم، ومقدمهم في العقل، والعلم، واللب، والرزانة، ومكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، والعفة، والشجاعة، وكل خلق فاضل، وأن المحتقر له، والشانىء له، قد جمع من السفه والجهل، والضلال، والتناقض، والظلم، والعدوان، ما لا يجمعه غيره. وحسبه جهلا وضلالا، أن يقدح بهذا الرسول العظيم، والهمام الكريم. والقصد من قدحهم فيه واستهزائهم به، تصلبهم على باطلهم، وتغرير ضعفاء العقول، ولهذا قالوا: * (إن كاد ليضلنا عن آلهتنا) * بأن يجعل الآلهة إلها واحدا * (لولا أن صبرنا عليها) * لأضلنا، فزعموا قبحهم الله أن الضلال هو التوحيد، وأن الهدى، ما هم عليه من الشرك، فلهذا تواصوا بالصبر عليه. * (وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم) *. وهنا قالوا: * (لولا أن صبرنا
(٥٨٣)