للخالق لسائر المخلوقات، من غير مشاركة له، في ذلك الذي بيده النفع والضر، والعطاء والمنع، الذي يحيي ويميت، ويبعث من في القبور، ويجمعهم يوم النشور، وقد جعل لهم دارين، دار الشقاء، والخزي، والنكال، لمن اتخذ معه آلهة أخرى، ودار الفوز والسعادة، والنعيم المقيم، لمن اتخذه وحده، معبودا. * (وقال الذين كفروا إن ه ذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جآءوا ظلما وزورا * وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا * قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما) * ولما قرر بالدليل القاطع الواضح، صحة التوحيد وبطلان ضده، قرر صحة الرسالة، وبطلان قول من عارضها واعترضها فقال: * (وقال الذين كفروا) * إلى * (إنه كان رحيما) *. أي: وقال الكافرون بالله، الذي أوجب لهم كفرهم، أن قالوا في القرآن والرسول: إن هذا القرآن كذب، كذبه محمد، وإفك، افتراه على الله، وأعانه على ذلك قوم آخرون. فرد الله عليهم ذلك، بأن هذا مكابرة منهم، وإقدام على الظلم والزور، الذي لا يمكن، أن يدخل عقل أحد، وهم أشد الناس معرفة بحالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكمال صدقه، وأمانته، وبره التام، وأنه لا يمكنه، لا هو، ولا سائر الخلق، أن يأتوا بهذا القرآن، الذي هو أجل الكلام وأعلاه، وأنه لم يجتمع بأحد بعينه، على ذلك، فقد جاؤوا بهذا القول ظلما وزورا. ومن جملة أقاويلهم فيه، أن قالوا: هذا الذي جاء به محمد * (أساطير الأولين اكتتبها) * أي: هذا قصص الأولين وأساطيرهم، التي تتلقاها الأفواه، وينقلها كل أحد، استنسخها محمد * (فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) * وهذا القول منهم، فيه عدة عظائم: منها: رميهم الرسول، الذي هو أبر الناس وأصدقهم، بالكذب، والجرأة العظيمة. ومنها: إخبارهم عن هذا القرآن، الذي هو أصدق الكلام وأعظمه، وأجله، بأنه كذب وافتراء. ومنها: أن في ضمن ذلك، أنهم قادرون أن يأتوا بمثله، وأن يضاهي المخلوق الناقص من كل وجه، للخالق الكامل من كل وجه، بصفة من صفاته، وهي الكلام. ومنها: أن الرسول، قد علمت حاله، وهم أشد الناس علما بها، أنه لا يكتب، ولا يجتمع بمن يكتب له، وهم قد زعموا ذلك. فلذلك رد عليهم ذلك بقوله: * (قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض) * أي: أنزله من أحاط علمه بما في السماوات، وما في الأرض، من الغيب والشهادة، والجهر والسر، لقوله: * (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين) *. ووجه إقامة الحجة عليهم، أن الذي أنزله، هو المحيط علمه بكل شيء فيستحيل ويمتنع، أن يقول مخلوق، ويتقول عليه، هذا القرآن، ويقول: هو من عند الله، وما هو من عنده، ويستحل دماء من خالفه، وأموالهم، ويزعم أن الله قال له ذلك. والله يعلم كل شيء، ومع ذلك فهو يؤيده وينصره على أعدائه، ويمكنه من رقابهم وبلادهم، فلا يمكن أحدا أن ينكر هذا القرآن، إلا بعد إنكار علم الله. وهذا لا تقول به طائفة من بني آدم، سوى الفلاسفة الدهرية. وأيضا، فإن ذكر علمه تعالى العام، ينبههم، ويحضهم على تدبر القرآن، وأنهم لو تدبروا، لرأوا فيه، من علمه وأحكامه، ما يدل دلالة قاطعة، على أنه لا يكون إلا من عالم الغيب والشهادة. ومع إنكارهم للتوحيد والرسالة من لطف الله بهم، أنه لم يدعهم وظلمهم، بل دعاهم إلى التوبة والإنابة إليه، ووعدهم بالمغفرة والرحمة، إن هم تابوا، ورجعوا فقال: * (إنه كان غفورا) * أي: وصفه المغفرة، لأهل الجرائم والذنوب، إذا فعلوا أسباب المغفرة، وهي: الرجوع عن معاصيه، والتوبة منها. * (رحيما) * بهم، حيث لم يعاجلهم بالعقوبة، وقد فعلوا مقتضاها، وحيث قبل توبتهم بعد المعاصي، وحيث محا، ما سلف من سيئاتهم، وحيث قبل حسناتهم، وحيث أعاد الراجع إليه بعد شروده، والمقبل عليه بعد إعراضه، إلى حالة المطيعين المنيبين إليه. * (وقالوا ما له ذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا * تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا * بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا * إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا * وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا * لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا) * هذا من مقالة المكذبين للرسول، الذين قدحوا في رسالته، وهو: أنهم اعترضوا بأنه، هلا كان ملكا أو ملكا، أو يساعده ملك، فقالوا: * (ما لهذا الرسول) * أي: ما لهذا الذي ادعى الرسالة؟ تهكما منهم
(٥٧٨)