تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٨٩
سورة الشعراء * (طسم * تلك آيات الكتاب المبين * لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين * إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين * وما يأتيهم من ذكر من الرحم ن محدث إلا كانوا عنه معرضين * فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون * أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) * يشير الباري تعالى إشارة، تدل على التعظيم لآيات الكتاب المبين البين الواضح، الدال على جميع المطالب الإلهية، والمقاصد الشرعية، بحيث لا يبقى عند الناظر فيه، شك ولا شبهة فيما أخبر به، أو حكم به، لوضوحه، ودلالته على أشرف المعاني، وارتباط الأحكام بحكمها، وتعليقها بمناسبها. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينذر به الناس، ويهدي به الصراط المستقيم. فيهتدي بذلك عباد الله المتقون، ويعرض عنه من كتب عليه الشقاء، فكان يحزن حزنا شديدا، على عدم إيمانهم، حرصا منه على الخير، ونصحا لهم. فلهذا قال تعالى لنبيه: * (لعلك باخع نفسك) * أي: مهلكها وشاقا عليها، * (أن لا يكونوا مؤمنين) * أي: فلا تفعل، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإن الهداية بيد الله، وقد أديت ما عليك من التبليغ، وليس فوق هذا القرآن المبين، آية، حتى ننزلها، ليؤمنوا بها، فإنه كاف شاف، لمن يريد الهداية، ولهذا قال: * (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية) * أي: من آيات الاقتراح، * (فظلت أعناقهم) * أي: أعناق المكذبن * (لها خاضعين) * ولكن لا حاجة إلى ذلك، ولا مصلحة فيه، فإنه إذ ذاك الوقت، يكون الإيمان غير نافع. وإنما الإيمان النافع، هو الإيمان بالغيب، كما قال تعالى: * (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها) * الآية. * (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث) * يأمرهم وينهاهم، ويذكرهم ما ينفعهم ويضرهم. * (إلا كانوا عنه معرضين) * بقلوبهم وأبدانهم. هذا إعراضهم عن الذكر المحدث، الذي جرت العادة، أنه يكون موقعه، أبلغ من غيره، فكيف بإعراضهم عن غيره. وهذا، لأنهم لا خير فيهم، ولا تنجع فيهم المواعظ، ولهذا قال: * (فقد كذبوا) * أي: بالحق، وصار التكذيب لهم سجية، لا تتغير ولا تتبدل، * (فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون) * أي: سيقع بهم العذاب، ويحل بهم، ما كذبوا به، فإنهم قد حقت عليهم، كلمة العذاب. قال الله منبها على التفكر، الذي ينفع صاحبه: * (أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم) * من جميع أصناف النباتات، حسنة المنظر، كريمة في نفعها. * (إن في ذلك لآية) * على إحياء الله الموتى بعد موتهم، كما أحيا الأرض بعد موتها * (وما كان أكثرهم مؤمنين) * كما قال تعالى: * (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) *. * (وإن ربك لهو العزيز) * الذي قد قهر كل مخلوق، ودان له العالم العلوي والسفلي، * (الرحيم) *، الذي وسعت رحمته كل شيء، ووصل جوده إلى كل حي، العزيز الذي أهلك الأشقياء بأنواع العقوبات، الرحيم بالسعداء، حيث أنجاهم من كل شر وبلاء. * (وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين * قوم فرعون ألا يتقون * قال رب إني أخاف أن يكذبون * ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون * ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون * قال كلا فاذهبا بآياتنآ إنا معكم مستمعون * فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين * أن أرسل معنا بني إسرائيل * قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين * وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين * قال فعلتهآ إذا وأنا من الضالين * ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين * وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل * قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهمآ إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهمآ إن كنتم تعقلون * قال لئن اتخذت إل ها غيري لأجعلنك من المسجونين * قال أولو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين * قال للملإ حوله إن ه ذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون * قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدآئن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم * فجمع السحرة لميقات يوم معلوم * وقيل للناس هل أنتم مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين * فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين * قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون * فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون * فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون * فألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون * قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين * قالوا لا ضير إنآ إلى ربنا منقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانآ أن كنآ أول المؤمنين * وأوحينآ إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون * فأرسل فرعون في المدآئن حاشرين * إن ه ؤلاء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغآئظون * وإنا لجميع حاذرون * فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأورثناها بني إسرائيل * فأتبعوهم مشرقين * فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين * فأوحينآ إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الآخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) * أعاد الباري تعالى، قصة موسى وثناها في القرآن، ما لم يثن غيرها، لكونها مشتملة على حكم عظيمة، وعبر، وفيها نبأه مع الظالمين، والمؤمنين. وهو صاحب الشريعة الكبرى، وصاحب التوراة، أفضل الكتب بعد القرآن فقال: واذكر حالة موسى الفاضلة، وقت نداء الله إياه، حين كلمه، ونبأه وأرسله فقال: * (أن ائت القوم الظالمين) * الذين تكبروا في الأرض، وعلوا على أهلها وادعى كبيرهم الربوبية. * (قوم فرعون ألا يتقون) * أي: قل لهم، بلين قول، ولطف عبارة * (ألا تتقون) * الله الذي خلقكم ورزقكم، فتتركون ما أنتم عليه من الكفر. فقال موسى عليه السلام، معتذرا من ربه، ومبينا لعذره، وسائلا له المعونة على هذا الحمل الثقيل: * (قال رب إني أخاف أن يكذبون * ويضيق صدري ولا ينطق لساني) *. وقال: * (رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري * واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي * واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي) *. * (فأرسل إلى هارون) *، فأجاب الله طلبته، ونبأ أخاه، كما نبأه * (فأرسله معي رداءا) * أي: معاونا لي على أمري. * (ولهم علي ذنب) * أي: في قتل القبطي * (فأخاف أن يقتلون) *. * (قال كلا) * أي: لا يتمكنون من قتلك، فإنا سنجعل لكما سلطانا، فلا يصلون إليكما أنتما، ومن اتبعكما الغالبون. ولهذا لم يتمكن فرعون، من قتل موسى، مع منابذته له غاية المنابذة، وتسفيه رأيه، وتضليله وقومه. * (فاذهبا بآياتنا) * الدالة على
(٥٨٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 584 585 586 587 588 589 590 591 592 593 594 ... » »»