تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٧٢
حكومة، ودعوا إلى الله ورسوله * (إذا فريق منهم معرضون) * يريدون أحكام الجاهلية، ويفضلون أحكام القوانين غير الشرعية على الأحكام الشرعية، لعلمهم أن الحق عليهم، وأن الشرع لا يحكم إلا بما يطابق الواقع. * (وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه) * أي: إلى حكم الشرع * (مذعنين) * وليس ذلك لأجل أنه حكم شرعي، وإنما ذلك، لأجل موافقة أهوائهم. فليسوا ممدوحين في هذه الحال، ولو أتوا إليه مذعنين، لأن العبد حقيقة، من يتبع الحق، فيما يحب ويكره، وفيما يسره ويحزنه، وأما الذي يتبع الشرع، عند موافقة هواه، وينبذه عند مخالفته، ويقدم الهوى على الشرع، فليس بعبد لله على الحقيقة. قال الله في لومهم على الإعراض عن الحكم الشرعي: * (أفي قلوبهم مرض) * أي: علة، أخرجت القلب عن صحته وأزالت حاسته، فصار بمنزلة المريض، الذي يعرض عما ينفعه، ويقبل على ما يضره. * (أم ارتابوا) * أي: شكوا، أو قلقت قلوبهم من حكم الله ورسوله، واتهموه أنه لا يحكم بالحق. * (أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله) * أي: يحكم عليهم حكما ظالما جائرا، وإنما هذا وصفهم * (بل أولئك هم الظالمون) *. وأما حكم الله ورسوله، ففي غاية العدالة والقسط، وموافقة الحكمة. * (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) *. وفي هذه الآيات، دليل على أن الإيمان، ليس هو مجرد القول، حتى يقترن به العمل، ولهذا نفى الإيمان عمن تولى عن الطاعة، ووجوب الانقياد لحكم الله، ورسوله في كل حال، وإن لم ينقد له، دل على مرض في قلبه، وريب في إيمانه، وأنه يحرم إساءة الظن بأحكام الشريعة، وأن يظن بها، خلاف العدل والحكمة. * (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأول ئك هم المفلحون * ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأول ئك هم الفائزون) * ولما ذكر حالة المعرضين عن الحكم الشرعي، ذكر حالة المؤمنين الممدوحين، فقال: * (إنما كان قول المؤمنين) * إلى * (الفائزون) * أي: * (إنما كان قول المؤمنين) * حقيقة الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم * (إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم) * سواء وافق أهواءهم، أو خالفها، * (أن يقولوا سمعنا وأطعنا) * أي: سمعنا حكم الله ورسوله، وأجبنا من دعانا إليه وأطعنا طاعة تامة، سالمة من الحرج. * (وأولئك هم المفلحون) *، حصر الفلاح فيهم، لأن الفلاح: الفوز بالمطلوب، والنجاة من المكروه، ولا يفلح إلا من حكم الله ورسوله، وأطاع الله ورسوله. ولما ذكر فضل الطاعة في الحكم خصوصا، ذكر فضلها عموما، في جميع الأحوال، فقال: * (ومن يطع الله ورسوله) * فيصدق خبرهما ويمتثل أمرهما. * (ويخش الله) * أي: يخافه، خوفا مقرونا، بمعرفة، فيترك ما نهى عنه، ويكف نفسه عما تهوى. ولهذا قال: * (ويتقه) * بترك المحظور، لأن التقوى عند الإطلاق يدخل فيها، فعل المأمور به، وترك المنهي عنه، وعند اقترانها بالبر أو الطاعة كما في هذا الموضع تفسر بتوقي عذاب الله، بترك معاصيه. * (فأولئك) * الذين جمعوا، بين طاعة الله، وطاعة رسوله، وخشية الله وتقواه، * (هم الفائزون) * بنجاتهم من العذاب، لتركهم أسبابه، ووصولهم إلى الثواب، لفعلهم أسبابه، فالفوز محصور فيهم، وأما من لم يتصف بوصفهم، فإنه يفوته من الفوز، بحسب ما قصر عنه من هذه الأوصاف الحميدة. واشتملت هذه الآية، على الحق المشترك، بين الله وبين رسوله، وهو: الطاعة المستلزمة للإيمان، والحق المختص بالله، وهو: الخشية والتقوى، وبقي الحق الثالث المختص بالرسول، وهو التعزير والتوقير. كما جمع بين الحقوق الثلاثة في سورة الفتح في قوله: * (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا) *. * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين) * يخبر تعالى، عن حالة المتخلفين عن الرسول صلى الله عليه وسلم، في الجهاد من المنافقين، ومن في قلوبهم مرض وضعف إيمان أنهم يقسمون بالله. * (لئن أمرتهم) * فيما يستقبل، أو لئن نصصت عليهم، حين خرجت * (ليخرجن) * والمعنى الأول، أولى. قال الله رادا عليهم: * (قل لا تقسموا) * أي: لا نحتاج إلى إقسامكم ولا إلى أعذاركم، فإن الله قد نبأنا من أخباركم، وطاعتكم معروفة، لا تخفى علينا، قد كنا نعرف منكم التثاقل والكسل، من غير عذر، فلا وجه لعذركم وقسمكم، إنما يحتاج إلى ذلك، من كان أمره محتملا، وحاله مشتبهة، فهذا ربما يفيده العذر براءة، وأما أنتم، فكلا ولما، وإنما ينتظر بكم ويخاف عليكم، حلول بأس الله ونقمته، ولهذا توعدهم بقوله: * (إن الله خبير بما تعملون) * فيجازيكم عليها أتم الجزاء، هذه حالهم في نفس الأمر. وأما الرسول عليه الصلاة والسلام، فوظيفته، أن يأمركم وينهاكم، ولهذا قال: * (قل أطيعوا الله والرسول فإن) * امتثلوا، كان حظهم وسعادتهم، وإن * (تولوا فإنما عليه ما حمل) * من الرسالة، وقد أداها. * (وعليكم ما حملتم) * من الطاعة، وقد بانت حالكم، وظهرت، فبان ضلالكم وغيكم واستحقاقكم العذاب. * (وإن تطيعوه تهتدوا) * إلى الصراط المستقيم،
(٥٧٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 567 568 569 570 571 572 573 574 575 576 577 ... » »»