للمستعفف أن الله سيغنيه، وييسر له أمره، وأمر له بانتظار الفرج، لئلا يشق عليه ما هو فيه. وقوله: * (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) *، أي: من ابتغى وطلب منكم الكتابة، وأن يشتري نفسه، من عبيد وإماء، فأجيبوه إلى ما طلب، وكاتبوه. * (إن علمتم فيهم) * أي: في الطالبين للكتابة * (خيرا) * أي: قدرة على التكسب، وصلاحا في دينه. لأن في الكتابة، تحصيل المصلحتين، مصلحة العتق والحرية، ومصلحة العوض، الذي يبذله في فداء نفسه، وربما جد واجتهد، وأدرك لسيده في مدة الكتابة من المال، ما لا يحصل عليه في رقه. فلا يكون ضرر على السيد في كتابته، مع حصول عظيم المنفعة للعبد، فلذلك أمر الله بالكتابة، على هذا الوجه، أمر إيجاب، كما هو الظاهر، أو أمر استحباب على القول الآخر، وأمر بمعاونتهم على كتابتهم، لكونهم محتاجين لذلك، بسبب أنهم لا مال لهم فقال: * (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) * يدخل في ذلك أمر سيده، الذي كاتبه، أن يعطيه من كتابته، أو يسقط عنه منها، وأمر الناس بمعونتهم. ولهذا جعل الله للمكاتبين قسطا من الزكاة، ورغب في إعطائه بقوله: * (من مال الله الذي آتاكم) * أي: فكما أن المال مال الله، وإنما الذي بأيديكم عطية من الله لكم ومحض منه، فأحسنوا لعباد الله، كما أحسن الله إليكم. ومفهوم الآية الكريمة، أن العبد إذا لم يطلب الكتابة، لا يؤمر سيده، أن يبتدئ بكتابته، وأنه إذا لم يعلم منه خيرا، بأن علم منه عكسه، إما أنه يعلم أنه لا كسب له، فيكون بسبب ذلك كلا على الناس، ضائعا. وإما أن يخاف إذا أعتق، وصار في حرية نفسه، أن يتمكن من الفساد، فهذا لا يؤمر بكتابته، بل ينهى عن ذلك لما فيه من المحذور المذكور. ثم قال تعالى: * (ولا تكرهوا فتياتكم) * أي: إماءكم * (على البغاء) * أي: أن تكون زانية * (إن أردن تحصنا) * لأنه لا يتصور إكراهها إلا بهذه الحال. وأما إذا لم ترد تحصنا فإنها تكون بغيا، يجب على سيدها، منعها من ذلك. وإنما نهى عن هذا لما كانوا يستعملونه في الجاهلية، من كون السيد يجبر أمته على البغاء، ليأخذ منها أجرة ذلك، ولهذا قال: * (لتبتغوا عرض الحياة الدنيا) * فلا يليق بكم أن تكون إماؤكم، خيرا منكم، وأعف عن الزنا، وأنتم تفعلون بهن ذلك، لأجل عرض الحياة، متاع قليل يعرض، ثم يزول. فكسبكم النزاهة، والنظافة، والمروءة بقطع النظر عن ثواب الآخرة وعقابها أفضل من كسبكم العرض القليل، الذي يكسبكم الرذالة والخسة. ثم دعا من جرى منه الإكراه إلى التوبة فقال: * (ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم) * فليتب إلى الله وليقلع عما صدر منه، مما يغضبه، فإذا فعل ذلك، غفر الله ذنوبه، ورحمه كما رحم نفسه بفكاكها من العذاب، وكما رحم أمته بعدم إكراهها على ما يضرها. * (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين) * هذا تعظيم وتفخيم لهذه الآيات، تلاها على عباده، ليعرفوا قدرها، ويقوموا بحقها فقال: * (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات) *، أي: واضحات الدلالة، على كل أمر تحتاجون إليه، من الأصول والفروع، بحيث لا يبقى فيها إشكال ولا شبهة. * (و) * أنزلنا إليكم أيضا * (مثلا من الذين خلوا من قبلكم) * من أخبار الأولين، الصالح منهم والطالح، وصفة أعمالهم، وما جرى لهم، وجرى عليهم تعتبرونه مثالا ومعتبرا، لمن فعل مثل أعمالهم أن يجازى مثل ما جوزوا. * (وموعظة للمتقين) * أي: وأنزلنا إليكم موعظة للمتقين، من الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، يتعظ بها المتقون، فيكفون عما يكره الله إلى ما يحبه الله. * (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم) * * (الله نور السماوات والأرض) * الحسي والمعنوي، وذلك أنه تعالى بذاته، نور، وحجابه نور، الذي لو كشفه، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، وبه استنار العرش، والكرسي، والشمس، والقمر والنور، وبه استنارت الجنة. وكذلك المعنوي، يرجع إلى الله، فكتابه نور، وشرعه نور، والإيمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين، نور. فلولا نوره تعالى، لتراكمت الظلمات، ولهذا، كل محل، يفقد نوره فثم الظلمة والحصر. * (مثل نوره) * الذي يهدي إليه، وهو نور الإيمان والقرآن في قلوب المؤمنين. * (كمشكاة) * أي: كوة * (فيها مصباح) * لأن الكوة، تجمع نور المصباح حيث لا يتفرق. ذلك * (المصباح في زجاجة الزجاجة) * من صفائها وبهائها * (كأنها كوكب دري) * أي: مضيء إضاءة الدر. * (يوقد) * ذلك المصباح، الذي في تلك الزجاجة الدرية * (من شجرة مباركة زيتونة) * أي: يوقد من زيت الزيتون الذي ناره، من أنور ما يكون. * (لا شرقية) * فقط، فلا تصيبها الشمس، آخر النهار. * (ولا غربية) * فقط، فلا تصيبها الشمس، أول النهار. وإذا انتفى عنها الأمران، كانت متوسطة من الأرض. كزيتون الشام،
(٥٦٨)