تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٧٠
فقال: * (والذين كفروا) * بربهم وكذبوا رسله * (أعمالهم كسراب بقيعة) * أي: بقاع؛ لا شجر فيه ولا نبات. * (يحسبه الظمآن ماء) * شديد العطش، الذي يتوهم، ما لا يتوهم غيره، بسبب ما معه من العطش، وهذا حسبان باطل، فيقصده ليزيل ظمأه. * (حتى إذا جاءه لم يجده شيئا) * فندم ندما شديدا، وازداد ما به من الظمأ، بسبب انقطاع رجائه. كذلك أعمال الكفار، بمنزلة السراب، ترى ويظنها الجاهل الذي لا يدري الأمور، أعمالا نافعة، فتغره صورتها، ويخلبه خيالها، ويحسبها هو أيضا أعمالا نافعة لهواه، وهو أيضا محتاج إليها، كاحتياج الظمآن للماء. حتى إذ قدم على أعماله، يوم الجزاء، وجدها ضائعة، ولم يجدها شيئا، والحال إنه لم يذهب، لا له ولا عليه، بل * (وجد الله عنده فوفاه حسابه) *. لم يخف عليه من عمله، نقير ولا قطمير ولن يعدم منه قليلا ولا كثيرا. * (الله سريع الحساب) * فلا يستبطىء الجاهلون ذلك الوعد، فإنه لا بد من إتيانه، ومثلها الله بالسراب، الذي بقيعة، أي: لا شجر فيه ولا نبات، وهذا مثال لقلوبهم، لا خير فيها ولا بر، فتزكو فيها الأعمال وذلك للسبب المانع، وهو الكفر. والمثل الثاني، لبطلان أعمال الكفار * (كظلمات في بحر لجي) * بعيد قعره، طويل مداه * (يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض) * ظلمة البحر اللجي، ثم فوقه ظلمة الأمواج المتراكمة، ثم فوق ذلك، ظلمة السحب المدلهمة، ثم فوق ذلك ظلمة الليل البهيم. فاشتدت الظلمة جدا، بحيث أن الكائن في تلك الحال * (إذا أخرج يده لم يكد يراها) * مع قربها إليه، فكيف بغيرها. كذلك الكفار، تراكمت على قلوبهم الظلمات، ظلمة الطبيعة، التي لا خير فيها، وفوقها ظلمة الكفر، وفوق ذلك، ظلمة الجهل، وفوق ذلك، ظلمة الأعمال الصادرة عما ذكر، فبقوا في الظلمة متحيرين، وفي غمرتهم يعمهون، وعن الصراط المستقيم مدبرون، وفي طرق الغي والضلال، يترددون، وهذا لأن الله خذلهم، فلم يعطهم من نوره. * (ومن لم يجعل الله له نورا فلما له من نور) * لأن نفسه ظالمة جاهلة، فليس فيه من الخير والنور، إلا ما أعطاها مولاها، ومنحها ربها. يحتمل أن هذين المثالين، لأعمال جميع الكفار، كل منهما، منطبق عليها، وعددهما لتعدد الأوصاف، ويحتمل أن كل مثال، لطائفة وفرقة. فالأول، للمتبوعين، والثاني، للتابعين، والله أعلم. * (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير) * نبه تعالى عباده على عظمته، وكمال سلطانه، وافتقار جميع المخلوقات إليه، في ربوبيتها، وعبادتها فقال: * (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض) * من حيوان وجماد * (والطير صافات) * أي: صافات أجنحتها، في السماء، تسبح ربها. * (كل) * من هذه المخلوقات * (قد علم صلاته وتسبيحه) * أي: كل له صلاة وعبادة بحسب حاله اللائقة به، وقد ألهمه الله تلك الصلاة والتسبيح، إما بواسطة الرسل، كالجن والإنس، والملائكة، وإما بإلهام منه تعالى، كسائر المخلوقات غير ذلك، وهذا الاحتمال، أرجح، بدليل قوله: * (والله عليم بما يفعلون) *، أي: علم جميع أفعالهم، فلم يخف عليه منها شيء، وسيجازيهم بذلك، فيكون على هذا، قد جمع بين علمه بأعمالهم، وذلك بتعليمه، وبين علمه بمقاصدهم المتضمن للجزاء. ويحتمل أن الضمير في قوله: * (قد علم صلاته وتسبيحه) * يعود إلى الله، وأن الله تعالى، قد علم عبادتهم، وإن لم تعلموا أيها العباد منها، إلا ما أطلعكم الله عليه. وهذه الآية كقوله تعالى: * (تسبح له السماوات السبع والأرض من فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا) *. فلما بين عبوديتهم وافتقارهم إليه من جهة العبادة والتوحيد بين افتقارهم إليه، من جهة الملك والتربية والتدبير فقال: * (ولله ملك السماوات والأرض) * خالقهما، ورازقهما، والمتصرف فيهما، في حكمه الشرعي والقدري، في هذه الدار، وفي حكمه الجزائي، بدار القرار، بدليل قوله: * (وإلى الله المصير) * أي: مرجع الخلق ومآلهم، ليجازيهم بأعمالهم. * (ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار * يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي
(٥٧٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 565 566 567 568 569 570 571 572 573 574 575 ... » »»