تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٥٩
عظيم) * (وقوله) * (نحن أعلم بما يصفون) * أي: بما يقولون من الأقوال المتضمنة، للكفر، والتكذيب بالحق، قد أحاط علمنا بذلك، وقد حلمنا عنهم، وأمهلناهم، وصبرنا عليهم، والحق لنا، وتكذيبهم لنا. فأنت يا محمد ينبغي لك أن تصبر على ما يقولون، وتقابلهم بالإحسان، هذه وظيفة العبد في مقابلة المسئ من البشر. وأما المسئ من الشياطين، فإنه لا يفيد فيه الإحسان. ولا يدعو حزبه، إلا ليكونوا من أصحاب السعير. فالوظيفة في مقابلته، أن يسترشد بما أرشد الله إليه رسوله فقال: * (وقل رب أعوذ بك من همزات الشيطان * وأعوذ بك رب أن يحضرون) *، أي: أعوذ بك من الشر، الذي يصيبني بسبب مباشرتهم، وهمزهم ومسهم، ومن الشر، الذي بسبب حضورهم، ووسوستهم، وهذه استعاذة من مادة الشر كله وأصله، ويدخل فيها، الاستعاذة من جميع نزغات الشيطان، ومن مسه ووسوسته، فإذا أعاذ الله عبده من هذا الشر، وأجاب دعاءه، سلم من كل شر، ووفق لكل خير. * (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قآئلها ومن ورآئهم برزخ إلى يوم يبعثون) * يخبر تعالى عن حال من حضره الموت، من المفرطين الظالمين، أنه يندم في تلك الحال، إذا رأى مآله، وشاهد قبح أعماله. فيطلب الرجعة إلى الدنيا، لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها وإنما ذلك ليقول: * (لعلي أعمل صالحا فيما تركت) * من العمل، وفرطت في جنب الله. * (كلا) * أي: لا رجعة له ولا إمهال، قد قضى الله أنهم إليها لا يرجعون، * (إنها) * أي: مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا * (كلمة هو قائلها) * أي: مجرد قول اللسان، لا يفيد صاحبه إلا الحسرة والندم، وهو أيضا غير صادق في ذلك، فإنه لو رد لعاد لما نهي عنه. * (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) * أي: من أمامهم وبين أيديهم، برزخ، وهو الحاجز بين الشيئين، فهو هنا: الحاجز بين الدنيا والآخرة. وفي هذا البرزخ، يتنعم المطيعون، ويعذب العاصون، من ابتداء موتهم، واستقرارهم في قبورهم، إلى يوم يبعثون، أي: فليعدوا له عدته، وليأخذوا له أهبته. * (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسآءلون * فمن ثقلت موازينه فأول ئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأول ئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون * تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون * ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون * قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضآلين * ربنآ أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون * قال اخسئوا فيها ولا تكلمون * إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنآ آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين * فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون * إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون * قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العآدين * قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون) * يخبر تعالى عن هول يوم القيامة، وما في ذلك، من المزعجات والمقلقات، وأنه إذا نفخ في الصور، نفخة البعث، فحشر الناس أجمعون، لميقات يوم معلوم، أنه يصيبهم من الهول، ما ينسيهم أنسابهم، التي هي أقوى الأسباب، فغير الأنساب، من باب أولى، وأنه لا يسأل أحد أحدا، عن حاله، لاشتغاله بنفسه، فلا يدري هل ينجو نجاة لا شقاوة بعدها؟ أو يشقى شقاوة لا سعادة بعدها؟ قال تعالى: * (فإذا جاءت الصاخة * يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) *. وفي القيامة مواضع، يشتد كربها، ويعظم وقعها، كالميزان الذي يميز به أعمال العبد، وينظر فيه بالعدل، ما له، وما عليه، وتبين فيه مثاقيل الذر، من الخير والشر. * (فمن ثقلت موازينه) * بأن رجحت حسناته على سيئاته * (فأولئك هم المفلحون) * لنجاتهم من النار، واستحقاقهم الجنة، وفوزهم بالثناء الجميل. * (ومن خفت موازينه) * بأن رجحت سيئاته على حسناته، وأحاطت بها خطيئاته * (فأولئك الذين خسروا أنفسهم) * كل خسارة، غير هذه الخسارة، فإنها بالنسبة إليها سهلة. ولكن هذه خسارة صعبة، لا يجبر مصابها، ولا يستدرك فائتها. خسارة أبدية، وشقاوة سرمدية، قد خسر نفسه الشريفة، التي يتمكن بها من السعادة الأبدية ففوتها هذا النعيم المقيم، في جوار الرب الكريم. * (في جهنم خالدون) * لا يخرجون منها أبد الآبدين، وهذا الوعيد، إنما هو كما ذكرنا، لمن أحاطت خطيئاته بحسناته، ولا يكون ذلك، إلا كافرا، فعلى هذا، لا يحاسب محاسبة من توزن حسناته وسيئاته، فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم، وتحصى، فيقفون عليها، ويقررون بها، ويخزون بها، وأما من معه أصل الإيمان، ولكن عظمت سيئاته، فرجحت على حسناته، فإنه وإن دخل النار، لا يخلد فيها، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة. ثم ذكر تعالى، سوء مصير الكافرين
(٥٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 554 555 556 557 558 559 560 561 562 563 564 ... » »»