شرع لكم التوبة، وجعل العقوبة مطهرة للذنوب. * (إذ تلقونه بألسنتكم) * أي: تتلقفونه، ويلقيه بعضكم إلى بعض وتستوشون حديثه، وهو قول باطل. * (وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم) * والأمران محظوران، التكلم بالباطل، والقول بلا علم. * (وتحسبونه هينا) * فلذلك أقدم عليه، من أقدم، من المؤمنين، الذين تابوا منه، وتطهروا بعد ذلك. * (وهو عند الله عظيم) * وهذا فيه الزجر البليغ، عن تعاطي بعض الذنوب على وجه التهاون بها، فإن العبد لا يفيده حسبانه شيئا، ولا يخفف من عقوبته، الذنب، بل يضاعف الذنب، ويسهل عليه مواقعته، مرة أخرى. * (لولا إذ سمعتموه) * أي: وهلا إذ سمعتم أيها المؤمنون كلام أهل الإفك. * (قلتم) * منكرين لذلك، معظمين لأمره: * (ما يكون لنا أن نتكلم بهذا) * أي: ما ينبغي لنا، وما يليق بنا الكلام، بهذا الإفك المبين، لأن المؤمن يمنعه إيمانه من ارتكاب القبائح * (هذا بهتان) * أي: كذب عظيم. * (يعظكم الله أن تعودوا لمثله) * أي: لنظيره، من رمي المؤمنين بالفجور، فالله يعظكم، وينصحكم عن ذلك، ونعم المواعظ والنصائح، من ربنا فيجب علينا مقابلتها، بالقبول والإذعان، والتسليم والشكر له، على ما بين لنا * (إن الله نعما يعظكم به) *. * (إن كنتم مؤمنين) * دل ذلك على أن الإيمان الصادق، يمنع صاحبه من الإقدام على المحرمات. * (ويبين الله لكم الآيات) * المشتملة، على بيان الأحكام، والوعظ، والزجر، والترغيب، والترهيب، يوضحها لكم توضيحا جليا. * (والله عليم) * أي: كامل العلم * (حكيم) * عام الحكمة. فمن علمه وحكمته، أن علمكم من علمه، وإن كان ذلك، راجعا لمصالحكم في كل وقت. * (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة) * أي: الأمور الشنيعة المستقبحة، فيحبون أن تشتهر الفاحشة * (في الذين آمنوا لهم عذاب أليم) * أي: موجع للقلب والبدن، وذلك لغشه لإخوانه المسلمين، ومحبة الشر لهم، وجراءته على أعراضهم، فإذا كان هذا الوعيد، لمجرد محبة أن تشيع الفاحشة، واستحلاء ذلك بالقلب، فكيف بما هو أعظم من ذلك، من إظهاره، ونقله؟ وسواء كانت الفاحشة، صادرة، أو غير صادرة. وكل هذا، من رحمة الله لعباده المؤمنين، وصيانة أعراضهم، كما صان دماءهم وأموالهم، وأمرهم بما يقتضي المصافاة، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له، ما يكره لنفسه. * (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) * فلذلك علمكم، وبين لكم ما تجهلونه. * (ولولا فضل الله عليكم) * قد أحاط بكم من كل جانب * (ورحمته وأن الله رؤوف رحيم) * لما بين لكم هذه الأحكام والمواعظ، والحكم الجليلة، ولما أمهل من خالف أمره، ولكن فضله ورحمته، وأن ذلك وصفه اللازم آثر لكم من الخير الدنيوي والأخروي، ما لن تحصوه، أو تعدوه. ولما نهى عن هذا الذنب بخصوصه، نهى عن الذنوب عموما فقال: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان) * أي: طرقه ووساوسه. وخطوات الشيطان، يدخل فيها سائر المعاصي المتعلقة بالقلب، واللسان والبدن. ومن حكمته تعالى، أن بين الحكم، وهو: النهي عن اتباع خطوات الشيطان. والحكمة وهو بيان ما في المنهي عنه، من الشر المقتضى، والداعي لتركه فقال: * (ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه) * أي: الشيطان * (يأمر بالفحشاء) * أي: ما تستفحشه العقول والشرائع، من الذنوب العظيمة، مع ميل بعض النفوس إليه. * (والمنكر) * وهو: ما تنكره العقول ولا تعرفه. فالمعاصي التي هي خطوات الشيطان، لا تخرج عن ذلك. فنهى الله عنها العباد، نعمة منه عليهم، أن يشكروه ويذكروه، لأن ذلك، صيانة لهم عن التدنس بالرذائل، والقبائح. فمن إحسانه عليهم، أن نهاهم عنها، كما نهاهم عن أكل السموم القاتلة ونحوها. * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا) * أي: ما تطهر من اتباع خطوات الشيطان، لأن الشيطان يسعى، هو وجنده، في الدعوة إليها وتحسينها، والنفس ميالة إلى السوء، أمارة به، والنقص مستول على العبد، من جميع جهاته، والإيمان غير قوي. فلو خلي وهذه الدواعي، ما زكى أحد بالتطهر من الذنوب، والسيئات، والنماء بفعل الحسنات، فإن الزكاء يتضمن الطهارة والنماء. ولكن فضله ورحمته أوجبا، أن يتزكى منكم، من تزكى. وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) ولهذا قال: * (ولكن الله يزكي من يشاء) * من يعلم منه أن يتزكى بالتزكية، ولهذا قال: * (والله سميع عليم) *. * (ولا يأتل) * أي: لا يحلف * (أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا) *. كان من جملة الخائضين في الإفك (مسطح بن أثاثة) وهو قريب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه. وكان مسطح فقيرا من المهاجرين في سبيل الله. فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه، لقوله الذي قال. فنزلت هذه الآية، ينهاهم عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه، ويحثه على العفو والصفح، ويعده بمغفرة الله، إن غفره له فقال:
(٥٦٤)