تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٦٣
لكم شدة الزنا وفظاعته، وفظاعة القذف به، وأن شرع التوبة من هذه الكبائر وغيرها. * (إن الذين جآءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم * لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا ه ذآ إفك مبين * لولا جآءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهدآء فأول ئك عند الله هم الكاذبون * ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم * إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم * ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم به ذا سبحانك ه ذا بهتان عظيم * يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين * ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم * إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون * ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم * يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشآء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ول كن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم * ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم * إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم * يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون * يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين * الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أول ئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم) * لما ذكر فيما تقدم تعظيم، الرمي بالزنا عموما، صار ذلك كأنه مقدمة لهذه القصة، التي وقعت على أشرف النساء، أم المؤمنين رضي الله عنها، وهذه الآيات، نزلت في قصة الإفك المشهورة، الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد. وحاصلها أن النبي صلى الله عليه وسلم، في بعض غزواته، ومعه زوجته عائشة الصديقة، بنت الصديق. فانقطع عقدها فانحبست في طلبه ورحلوا جملها وهودجها، فلم يفقدوها ثم استقل الجيش راحلا، وجاءت مكانهم، وعلمت أنهم إذا فقدوها، رجعوا إليها فاستمروا في مسيرهم. وكان صفوان بن المعطل السلمي، من أفاضل الصحابة رضي الله عنه، قد عرس في أخريات القوم، ونام، فرأى عائشة رضي الله عنها، فعرفها، فأناخ راحلته، فركبتها من دون أن يكلمها أو تكلمه، ثم جاء يقود بها، بعد ما نزل الجيش في الظهيرة. فلما رأى بعض المنافقين، الذين في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، في ذلك السفر، مجيء، صفوان بها في هذه الحال أشاع ما أشاع، وفشا الحديث، وتلقفته الألسن، حتى اغتر بذلك بعض المؤمنين، وصاروا يتناقلون هذا الكلام، وانحبس الوحي مدة طويلة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وبلغ الخبر عائشة بعد ذلك بمدة، فحزنت حزنا شديدا، فأنزل الله براءتها في هذه الآيات. ووعظ الله المؤمنين، وأعظم ذلك، ووصاهم بالوصايا النافعة. فقوله تعالى: * (إن الذين جاؤوا بالإفك) * أي: الكذب الشنيع، وهو رمي أم المؤمنين * (عصبة منكم) * أي: جماعة منتسبون إليكم يا معشر المؤمنين، منهم المؤمن الصادق في إيمانه، لكنه اغتر بترويج المنافقين، ومنهم المنافق. * (ولا تحسبوه شرا لكم بل خير لكم) * لما تضمن ذلك من تبرئة أم المؤمنين ونزاهتها، والتنويه بذكرها، حتى تناول عموم المدح سائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم. ولما تضمن من بيان الآيات المضطر إليها العباد، التي ما زال العمل بها إلى يوم القيامة فكل هذا خير عظيم، لولا مقالة أهل الإفك لم يحصل ذلك. وإذا أراد الله أمرا جعل له سببا، ولذلك جعل الخطاب عاما مع المؤمنين كلهم. وأخبر أن قدح بعضهم ببعض، كقدح في أنفسهم. ففيه أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، واجتماعهم على مصالحهم، كالجسد الواحد، والمؤمن للمؤمن، كالبنيان يشد بعضه بعضا. فكما أنه يكره أن يقدح أحد في عرضه، فليكره من كل أحد، أن يقدح في أخيه المؤمن، الذي بمنزلة نفسه، وما لم يصل العبد إلى هذه الحالة، فإنه من نقص إيمانه، وعدم نصحه. * (لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم) * وهذا وعيد للذين جاؤوا بالإفك، وأنهم سيعاقبون على ما قالوا من ذلك، وقد حد النبي صلى الله عليه وسلم منهم جماعة. * (والذي تولى كبره) * أي: معظم الإفك، وهو المنافق الخبيث، عبد الله بن أبي ابن سلول، لعنه الله * (له عذاب عظيم) * ألا وهو الخلود في الدرك الأسفل من النار. ثم أرشد الله عباده عند سماع مثل هذا الكلام فقال: * (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا) * أي: ظن المؤمنون بعضهم ببعض خيرا، وهو السلام مما رموا به، وأن ما معهم من الإيمان المعلوم، يدفع ما قيل فيهم من الإفك الباطل. * (وقالوا) * بسبب ذلك الظن * (سبحانك) * أي: تنزيها لك من كل سوء، وعن أن تبتلي أصفياءك بالأمور الشنيعة. * (هذا إفك مبين) * أي: كذب وبهت، من أعظم الأشياء، وأبينها. فهذا من الظن الواجب، حين سماع المؤمن عن أخيه المؤمن، مثل هذا الكلام، أن يبرئه بلسانه، ويكذب القائل لذلك. * (لولا جائوا عليه بأربعة شهداء) * أي: هلا جاء الرامون على ما رموا به، بأربعة شهداء أي: عدول مرضيين. * (فإذ لم يؤتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) * وإن كانوا في أنفسهم قد تيقنوا ذلك، فإنهم كاذبون في حكم الله، لأنه حرم عليهم التكلم بذلك، من دون أربعة شهود، ولهذا قال: * (فأولئك عند الله هم الكاذبون) *، ولم يقل (فأولئك هم الكاذبون). وهذا كله، من تعظيم حرمة عرض المسلم، بحيث لا يجوز الإقدام على رميه، من دون نصاب الشهادة بالصدق. * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة) * بحيث شملكم إحسانه فيهما، في أمر دينكم ودنياكم. * (لمسكم فيما أفضتم) * أي: خضتم * (فيه) * من شأن الإفك * (عذاب عظيم) * لاستحقاقكم ذلك بما قلتم. ولكن من فضل الله عليكم ورحمته، أن
(٥٦٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 558 559 560 561 562 563 564 565 566 567 568 ... » »»