وإثبات المعاد * (فتربصوا به حتى حين) * أي: ارفعوا عنه العقوبة بالقتل وغيره، احتراما له، ولأنه مجنون غير مؤاخذ بما يتكلم به. أي: فلم يبق بزعمهم الباطل، مجادلة معه، لصحة ما جاء به، فإنهم قد زعموا بطلانه، وإنما بقي الكلام، هل يوقعون به أم لا؟ فبزعمهم أن عقولهم الرزينة، اقتضت الإبقاء عليه، وترك الإيقاع به، مع قيام الموجب، فهل فوق هذا العناد والكفر غاية؟ ولهذا لما اشتد كفرهم، ولم ينفع فيهم الإنذار، دعا عليهم نبيهم فقال: * (رب انصرني بما كذبون) * أي: بإهلاكهم، وخزيهم الدنيوي، قبل الآخرة. ف * (قال) * الله مجيبا لدعوته: * (عما قليل ليصبحن نادمين فأخذتهم الصيحة بالحق) * لا بالظلم والجور، بل بالعدل وظلمهم، أخذتهم الصيحة، فأهلكتهم عن آخرهم. * (فجعلناهم غثاء) * أي: هشيما يبسا بمنزلة غثاء السبيل الملقى في جنبات الوادي، وقال في الآية الأخرى: * (إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر) *. * (فبعدا للقوم الظالمين) * أي: أتبعوا مع عذابهم، البعد واللعنة والذم من العالمين. * (فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين) *، هذا التعبير مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم، وفيه تهكم بهم، وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده، فيقال عنه: (بكت عليه السماء والأرض). ومنه ما روي: (أن المؤمن إذا مات، ليبكي عليه مصلاه، ومحل عبادته، ومصاعد عمله، ومهابط رزقه، وآثاره في الأرض)، وعن الحسن (يبكي عليه أهل السماء والأرض). * (وما كانوا) * لما جاءهم وقت هلاكهم * (منظرين) * أي: ممهلين إلى وقت آخر، بل عجل لهم العذاب في الدنيا، والمعنى الإجمالي: فما حزنت عليهم السماء والأرض عندما أخذهم العذاب، لهوان شأنهم، لأنهم ماتوا كفارا، ولم ينظروا لتوبة، ولم يمهلوا لتدارك تقصيرهم احتقارا لهم. * (ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين * ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون * ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون) * أي: ثم أنشأنا من بعد هؤلاء المكذبين المعاندين، قرونا آخرين، كل أمة في وقت مسمى، وأجل محدود، لا تتقدم عنه ولا تتأخر. وأرسلنا إليهم رسلا متتابعة، لعلهم يؤمنون ويبينون. فلم يزل الكفر والتكذيب، دأب الأمم العصاة، والكفرة البغاة كلما جاء أمة رسولها، كذبوه، مع أن كل رسول يأتي من الآيات، ما يؤمن على مثله البشر، بل مجرد دعوة الرسل وشرعهم، يدل على حقية ما جاؤوا به. * (فأتبعنا بعضهم بعضا) * بالهلاك، فلم يبق منهم باقية، وتعطلت مساكنهم من بعدهم * (وجعلناهم أحاديث) * يتحدث بهم من بعدهم، ويكونون عبرة للمتقين، ونكالا للمكذبين، وخزيا عليهم مقرونا بعذابهم. * (فبعدا لقوم لا يؤمنون) * ما أشقاهم وتعسا لهم، ما أخسر صفقتهم مر علي منذ زمان طويل، كلام لبعض العلماء لا يحضرني الآن اسمه، وهو أنه بعد موسى ونزول التوراة، رفع الله العذاب عن الأمم، أي: عذاب الاستئصال، وشرع للمكذبين المعاندين بالجهاد، ولم أدر من أين أخذه، فلما تدبرت هذه الآيات، مع الآيات التي في سورة القصص، تبين لي وجهه. أما هذه الآيات، فلأن الله، ذكر الأمم المهلكة المتتابعة على الهلاك، ثم أخبر أنه أرسل موسى بعدهم، وأنزل عليه التوراة. فيها الهداية للناس، ولا يرد على هذا، إهلاك فرعون، فإنه قبل نزول التوراة، وأما الآيات التي في سورة القصص، فهي صريحة جدا، فإنه لما ذكر هلاك فرعون قال: * (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون) * فهذا صريح أنه آتاه الكتاب بعد هلاك الأمم الباغية. وأخبر أنه أنزل بصائر للناس، وهدى ورحمة. ولعل من هذا، ما ذكر الله في سورة (يونس) من قوله: * (ثم بعثنا من بعده) * أي: من بعد نوح * (رسلا إلى قومهم فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع عل قلوب المعتدين * ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون) * الآيات والله أعلم. * (ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون فكذبوهما فكانوا من المهلكين ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون) * فقوله: * (ثم أرسلنا موسى) * بن عمران، كليم الرحمن * (وأخاه هارون) * حين سأل ربه أن يشركه في أمره فأجاب سؤله. * (بآياتنا) * الدالة على صدقهما وصحه ما جاءا به * (وسلطان مبين) * أي: حجة بينة، من قوتها، أن تقهر القلوب، وتتسلط عليها لقوتها فتنقاد لها قلوب المؤمنين، وتقوم الحجة البينة على المعاندين. وهذا كقوله: * (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات) * ولهذا رئيس المعاندين عرف الحق وعاند * (فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم) * بتلك الآيات البينات * (فقال) * له * (فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا) *. وقال تعالى: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) *. وقال هنا: * (ثم أرسلنا موسى
(٥٥٢)