تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٥٨
وتتقون الرب العظيم، كامل القدرة، عظيم السلطان؟ وفي هذا من لطف الخطاب، من قوله: * (أفلا تتقون) * والوعظ بأداة العرض الجاذبة للقلوب، ما لا يخفى. ثم انتقل إلى إقرارهم بما هو أعم من ذلك كله فقال: * (قل من بيده ملكوت كل شيء) * أي: ملك كل شيء، من العالم العلوي، والعالم السفلي، ما نبصره، وما لا نبصره؟ * (الملكوت) * صيغة مبالغة، بمعنى الملك. * (وهو يجير) * عباده من الشر، ويدفع، عنهم المكاره، ويحفظهم مما يضرهم. * (ولا يجار عليه) * أي: لا يقدر أحد أن يجير على الله، ولا يدفع الشر الذي قدره الله. بل ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه. * (سيقولون لله) * أي: سيقرون أن الله المالك لكل شيء، المجير، الذي لا يجار عليه. * (قل) * لهم حين يقرون بذلك، ملزما لهم، * (فأنى تسحرون) * أي: فأين تذهب عقولكم، حيث عبدتم من علمتم أنهم لا ملك لهم، ولا قسط من الملك، وأنهم عاجزون من جميع الوجوه، وتركتم الإخلاص للمالك العظيم القادر المدبر لجميع الأمور، فالعقول التي دلتكم على هذا، لا تكون إلا مسحورة، وهي بلا شك قد سحرها الشيطان، بما زين لهم، وحسن لهم، وقلب الحقائق لهم، فسحر عقولهم، كما سحرت السحرة، أعين الناس. * (بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون * ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إل ه إذا لذهب كل إل ه بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون * عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون) * يقول تعالى: بل أتينا هؤلاء المكذبين بالحق، المتضمن للصدق في الأخبار، العدل في الأمر والنهي، فما بالهم لا يعترفون به، وهو أحق أن يتبع؟ وليس عندهم، ما يعوضهم عنه، إلا الكذب والظلم ولهذا قال: * (وإنهم لكاذبون) *. * (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله) * كذب يعرف بخبر الله، وخبر رسله، ويعرف بالعقل الصحيح، ولهذا نبه تعالى على الدليل العقلي، على امتناع إلهين فقال: * (إذا) * أي: لو كان معه آلهة كما يقولون * (لذهب كل إله بما خلق) * أي: لانفرد كل واحد من الإلهين، بمخلوقاته واستقل بها، ولحرص على ممانعة الآخر ومغالبته. * (ولعلا بعضهم على بعض) * فالغالب، يكون هو الإله، فمن التمانع، لا يمكن وجود العالم، ولا يتصور أن ينتظم هذا الانتظام المدهش للعقول، واعتبر ذلك بالشمس والقمر، والكواكب الثابتة، والسيارة، فإنها منذ خلقت، وهي تجري على نظام واحد، وترتيب واحد، كلها مسخرة بالقدرة، مدبرة بالحكمة لمصالح الخلق كلهم، ليست مقصورة على أحد دون أحد، ولن ترى فيها خللا، ولا تناقضا، ولا معارضة في أدنى تصرف، فهل يتصور أن يكون ذلك، تقدير إلهين ربين؟ * (سبحان الله عما يصفون) * قد نطقت بلسان حالها، وأفهمت ببديع أشكالها، أن المدبر لها، إله واحد، كامل الأسماء والصفات، قد افتقرت إليه جميع المخلوقات، في ربوبيته لها، وفي إلهيته لها. فكما لا وجود لها ولا دوام، إلا بربوبيته، كذلك، لا صلاح لها ولا قوام إلا بعبادته وإفراده بالطاعة. ولهذا نبه على عظمة صفاته بأنموذج من ذلك، وهو علمه المحيط. فقال: * (عالم الغيب) * أي: الذي غاب عن أبصارنا، وعلمنا، من الواجبات، والمستحيلات، والممكنات. * (والشهادة) * وهو ما نشاهد من ذلك * (فتعالى) * أي: ارتفع وعظم. * (عما يشركون) * به، ولا علم عندهم، إلا ما علمه الله. * (قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون) * لما أقام تعالى على المكذبين أدلته العظيمة، فلم يلتفتوا إليها، ولم يذعنوا لها، حق عليهم العذاب، ووعدوا بنزوله، وأرشد الله رسوله أن يقول: * (قل رب إما تريني ما يوعدون) * أي: أي وقت أريتني عذابهم، وأحضرتني ذلك. * (رب فلا تجعلني في القوم الظالمين) * أي: اعصمني وارحمني، مما ابتليتهم به من الذنوب الموجبة للنعم، وارحمني أيضا من العذاب الذي ينزل بهم، لأن العقوبة العامة، تعم عند نزولها العاصي وغيره. قال الله في تقريب عذابهم: * (وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون) * ولكن إن أخرناه فلحكمة، وإلا، فقدرتنا صالحة لإيقاعه. * (ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون) * هذا من مكارم الأخلاق، التي أمر الله رسوله بها فقال: * (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) * أي: إذا أساء إليك أعداؤك، بالقول والفعل، فلا تقابلهم بالإساءة، مع أنه يجوز معاقبة المسئ بمثل إساءته، ولكن ادفع إساءتهم إليك، بالإحسان منك إليهم، فإن ذلك فضل منك على المسئ. ومن مصالح ذلك، أنه تخف الإساءة عنك، في الحال، وفي المستقبل، وأنه أدعى لجلب المسئ إلى الحق، وأقرب إلى ندمه وأسفه، ورجوعه بالتوبة عما فعل. ويتصف العافي بصفة الإحسان، ويقهر بذلك عدوه الشيطان، ويستوجب الثواب من الرب قال تعالى: * (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) * وقال تعالى: * (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة، كأنه ولي حميم * ما يلقاها) * أي: ما يوفق لهذا الخلق الجميل * (إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ
(٥٥٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 553 554 555 556 557 558 559 560 561 562 563 ... » »»