تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٥٤
أي: بما عندهم من العلم والدين. * (فرحون) * يزعمون أنهم المحقون، وغيرهم على غير الحق، مع أن المحق منهم، من كان على طريق الرسل، من أكل الطيبات، والعمل الصالح، وما عداهم، فإنهم مبطلون. * (فذرهم في غمرتهم) * أي: في وسط جهلهم بالحق، ودعواهم: أنهم، هم المحقون. * (حتى حين) * أي: إلى أن ينزل العذاب بهم، فإنهم لا ينفع فيهم وعظ، ولا يفيدهم زجر، فكيف يفيد بمن يزعم أنه على الحق، ويطمع في دعوة غيره إلى ما هو عليه؟ * (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات) *، أي: أيظنون أن زيادتنا إياهم بالأموال والأولاد، دليل على أنهم من أهل الخير والسعادة، وأن لهم خير الدنيا والآخرة؟ وهذا مقدم لهم، ليس الأمر كذلك. * (بل لا يشعرون) * أنما نملي لهم، ونمهلهم، ونمدهم بالنعم، ليزدادوا إثما، وليتوفر عقابهم في الآخرة، وليغتبطوا بما أوتوا * (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة) *. * (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون * والذين هم بآيات ربهم يؤمنون * والذين هم بربهم لا يشركون * والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون * أول ئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون * ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون) * لما ذكر تعالى، الذين جمعوا بين الإساءة والأمن، الذين يزعمون أن عطاء الله إياهم في الدنيا، دليل على خيرهم وفضلهم، ذكر الذين جمعوا بين الإحسان والخوف فقال: * (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون) * أي: وجلون، مشفقة قلوبهم كل ذلك، من خشية ربهم، خوفا أن يضع عليهم عدله، فلا يبقي له حسنة، وسوء ظن بأنفسهم أن لا يكونوا قد قاموا بحق الله تعالى، وخوفا على إيمانهم من الزوال، ومعرفة منهم بربهم، وما يستحقه من الإجلال والإكرام، وخوفهم وإشفاقهم يوجب لهم الكف عما يوجب الأمر المخوف من الذنوب، والتقصير في الواجبات. * (والذين هم بآيات ربهم يؤمنون) * أي: إذا تليت عليهم آياته، زادتهم إيمانا، ويتفكرون أيضا في الآيات القرآنية، ويتدبرونها، فيبين لهم من معاني القرآن وجلالته واتفاقه، وعدم اختلافه، وتناقضه، وما يدعو إليه من معرفة الله، وخوفه، ورجائه وأحوال الجزاء، فيحدث لهم بذلك، من تفاصيل الإيمان، ما لا يعبر عنه اللسان. ويتفكرون أيضا في الآيات الأفقية، كما في قوله: * (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) * إلى آخر الآيات. * (والذين هم بربهم لا يشركون) * أي: لا شركا جليا، كاتخاذ غير الله معبودا، يدعونه، ويرجونه، ولا شركا خفيا كالرياء ونحوه، بل هم مخلصون لله، في أقوالهم، وأعمالهم، وسائر أحوالهم. * (والذين يؤتون ما آتوا) * أي: يعطون من أنفسهم، مما أمروا به، ما آتوا من كل ما يقدرون عليه، من صلاة، وزكاة، وحج، وصدقة، وغير ذلك. * (و) * مع هذا * (قلوبهم وجلة) * أي: خائفة * (أنهم إلى ربهم راجعون) *. أي: خائفة عند عرض أعمالها عليه، والوقوف بين يديه، أن تكون أعمالهم غير منجية من عذاب الله، لعلمهم بربهم، وما يستحقه من أصناف العبادات. * (أولئك يسارعون في الخيرات) * أي: في ميدان التسارع في أفعال الخير، همهم ما يقربهم إلى الله، وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذابه، فكل خير سمعوا به، أو سنحت لهم الفرصة، انتهزوه وبادروه. قد نظروا إلى أولياء الله وأصفيائه، أمامهم، ويمنة، ويسرة، يسارعون في كل خير، وينافسون في الزلفى عند ربهم، فنافسوهم. ولما كان المسابق لغيره المسارع، قد يسبق لجده وتشميره، وقد لا يسبق لتقصيره، أخبر تعالى أن هؤلاء من اقسم السابقين فقال: * (وهم لها) * أي: للخيرات * (سابقون) * قد بلغوا ذروتها، وتباروا، هم والرعيل الأول، ومع هذا، قد سبقت لهم من الله، سابقة السعادة، أنهم سابقون. ولما ذكر مسارعتهم إلى الخيرات، وسبقهم إليها، ربما وهم واهم، أن المطلوب منهم ومن غيرهم، أمر غير مقدور، أو متعسر، قال تعالى: * (ولا نكلف نفسا إلا وسعها) * أي: بقدر ما تسعه، ويفضل من قوتها عنه، ليس مما يستوعب قوتها، رحمة منه وحكمة، لتيسير طريق الوصول إليه، ولتعمر جادة السالكين في كل وقت إليه. * (ولدينا كتاب ينطق بالحق) * وهو الكتاب الأول، الذي فيه كل شيء، وهو يطابق كل واقع يكون، فلذلك كان حقا. * (وهم لا يظلمون) * أي: لا ينقص من إحسانهم، ولا يزداد في عقوبتهم وعصيانهم. * (بل قلوبهم في غمرة من ه ذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون * حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون * لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون * قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون * مستكبرين به سامرا تهجرون * أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آبآءهم الأولين * أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون * أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون * ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون) * يخبر تعالى أن هؤلاء المكذبين، في غمرة من هذا، أي: وسط غمرة من الجهل والظلم، والغفلة والإعراض، تمنعهم من الوصول إلى هذا القرآن، فلا يهتدون به، ولا يصل
(٥٥٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 549 550 551 552 553 554 555 556 557 558 559 ... » »»