إلى قلوبهم منه شيء. * (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا) *، فلما كانت قلوبهم في غمرة منه، عملوا بحسب هذا الحال، من الأعمال الكفرية، والمعاندة للشرع، ما هو موجب لعقابهم. * (و) * لكن * (لهم أعمال من دون ذلك) * هذه الأعمال * (هم لها عاملون) *، أي: فلا يستغربوا عدم وقوع العذاب فيهم، فإن الله يمهلهم، ليعملوا هذه الأعمال، التي بقيت عليهم، مما كتب عليهم، فإذا عملوها، واستوفوها انتقلوا بشر حالة، إلى غضب الله وعقابه. * (حتى إذا أخذنا مترفيهم) * أي: متنعميهم، الذين ما اعتادوا إلا الترف، والرفاهية، والنعيم، ولم تحصل لهم المكاره، فإذا أخذناهم * (بالعذاب) * ووجدوا مسه * (إذا هم يجأرون) * يصرخون، ويتوجعون، لأنه أصابهم أمر، خالف ما هم عليه. ويستغيثون، فيقال لهم: * (لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون) *، وإذا لم تأتهم النصرة من الله، وانقطع عنهم الغوث، من جانبه، لم يستطيعوا نصر أنفسهم، ولم ينصرهم أحد. فكأنه قيل: ما السبب الذي أوصلهم إلى هذه الحال؟ قال: * (قد كانت آياتي تتلى عليكم) * لتؤمنوا بها وتقبلوا عليها، فلم تفعلوا ذلك، بل * (فكنتم على أعقابكم تنكصون) * أي: راجعين القهقرى إلى الخلف، وذلك لأن باتباعهم القرآن، يتقدمون، وبالإعراض عنه، يستأخرون وينزلون إلى أسفل سافلين. * (مستكبرين به سامرا تهجرون) * قال المفسرون معناه: مستكبرين به، الضمير يعود إلى البيت، المعهود عند المخاطبين، أو الحرم، أي: متكبرين على الناس بسببه، تقولون: نحن أهل الحرم، فنحن أفضل من غيرنا، وأعلى * (سامرا) * أي: جماعة يتحدثون بالليل حول البيت * (تهجرون) * أي: تقولون الكلام الهجر، الذي هو القبيح في هذا القرآن. فالمكذبون كانت طريقتهم في القرآن، الإعراض عنه، ويوصي بعضهم بعضا بذلك * (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) * وقال الله عنهم: * (أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون) * * (أم يقولون تقوله) *. فلما كانوا جامعين لهذه الرذائل، لا جرم حقت عليهم العقوبة، ولما وقعوا فيها، لم يكن لهم ناصر ينصرهم، ولا مغيث ينقذهم، ويوبخون عند ذلك بهذه الأعمال الساقطة * (أفلم يدبروا القول) *، أي: أفلا يتفكرون في القرآن، ويتأملونه ويتدبرونه، أي: فإنهم لو تدبروه، لأوجب لهم الإيمان، ولمنعهم من الكفر، ولكن المصيبة، التي أصابتهم، بسبب إعراضهم عنه، ودل هذا، على أن تدبر القرآن، يدعو إلى كل خير، ويعصم من كل شر، والذي منعهم، من تدبره أن على قلوبهم أقفالها. * (أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين) * أي: أو منعهم من الإيمان، أنه جاءهم رسول، وكتاب، ما جاء آباءهم الأولين، فرضوا بسلوك طريق آبائهم الضالين، وعارضوا كل ما خالف ذلك، ولهذا قالوا، هم ومن أشبههم من الكفار، ما أخبر الله عنهم: * (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) *، فأجابهم بقوله: * (قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم) *، فهل تتبعون إن كان قصدكم الحق. فأجابوا بحقيقة أمرهم * (قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون) *. وقوله: * (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون) * أي: أو منعهم من اتباع الحق، أن رسولهم محمدا صلى الله عليه وسلم، غير معروف عندهم، فهم منكرون له؟ يقولون: لا نعرفه، ولا نعرف صدقه، دعونا ننظر حاله، ونسأل عنه، من لديه خبره، أي: لم يكن الأمر كذلك، فإنهم يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم، معرفة تامة، صغيرهم، وكبيرهم يعرفون منه كل خلق جميل، ويعرفون صدقه، وأمانته، حتى كانوا يسمونه قبل البعثة (الأمين) فلم لا يصدقونه، حين جاءهم بالحق العظيم، والصدق المبين؟ * (أم يقولون به جنة) * أي: جنون، فلهذا قال ما قال، والمجنون، غير مسموع عنه، ولا عبرة بكلامه، لأنه يهذي بالباطل، والكلام السخيف. قال الله في الرد عليهم في هذه المقالة: * (بل جاءهم بالحق) * أي: بالأمر الثابت، الذي هو صدق وعدل، لا اختلاف فيه، ولا تناقض، فكيف يكون من جاء به، به جنة؟! وهلا يكون إلا في أعلى درجات الكمال، من العلم والعقل، ومكارم الأخلاق. وأيضا، فإن في هذا، الانتقال، مما تقدم. أي: بل الحقيقة التي منعتهم من الإيمان، أنه * (جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون) *. وأعظم الحق الذي جاءهم به، إخلاص العبادة لله وحده، وترك ما يعبد من دون الله. وقد علم كراهتهم لهذا الأمر، وتعجبهم منه. فكون الرسول أتى بالحق، وكونهم كارهين للحق بالأصل، هو الذي أوجب لهم التكذيب بالحق، لا شكا ولا تكذيبا للرسول، كما قال تعالى: * (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) *. فإن قيل: لم لم يكن الحق موافقا لأهوائهم لأجل أن يؤمنوا أو يسرعوا الانقياد؟ أجاب تعالى بقوله: * (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض) *. ووجه ذلك، أن أهواءهم، متعلقة بالظلم، والكفر، والفساد، من الأخلاق، والأعمال. فلو اتبع الحق أهوائهم، لفسدت السماوات والأرض، لفساد التصرف والتدبير، المبني على الظلم وعدم العدل.
(٥٥٥)