تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٥١
* (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك) * أي: علوتم عليها، واستقلت بكم في تيار الأمواج، ولجج اليم، فاحمدوا الله على النجاة والسلامة. فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين، وهذا تعليم منه له، ولمن معه، أن يقولوا هذا شكرا له، وحمدا على نجاتهم، من القوم الظالمين في عملهم وعذابهم. * (وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين) * أي: وبقيت عليكم نعمة أخرى، فادعوا الله فيها، وهي أن ييسر الله لكم منزلا مباركا، فاستجاب الله دعاءه، قال الله: * (وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين) * إلى أن قال: * (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك) * الآية. * (إن في ذلك) * أي: في هذه القصة * (لآيات) * تدل على أن الله وحده المعبود، وعلى أن رسوله نوحا، صادق، وأن قومه كاذبون، وعلى رحمة الله بعباده، حيث حملهم في صلب أبيهم نوح، في الفلك لما غرق أهل الأرض. والفلك أيضا من آيات الله قال تعالى: * (ولقد تركناها آية فهل من مدكر) * ولهذا جمعها هنا لأنها تدل على عدة آيات ومطالب. * (وإن كنا لمبتلين) *. * (ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين * فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إل ه غيره أفلا تتقون * وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقآء الآخرة وأترفناهم في الحي اة الدنيا ما ه ذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون * ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون * أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون * هيهات هيهات لما توعدون * إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين * إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين * قال رب انصرني بما كذبون * قال عما قليل ليصبحن نادمين * فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين) * لما ذكر نوحا وقومه، وكيف أهلكهم قال: * (ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين) *، الظاهر أنهم (ثمود) قوم صالح، عليه السلام لأن هذه القصة، تشبه قصتهم. * (فأرسلنا فيهم رسولا منهم) * من جنسهم، يعرفون نسبه وحسبه، وصدقه، ليكون ذلك أسرع لانقيادهم، إذا كان منهم، وأبعد عن اشمئزازهم، فدعا إلى ما دعت إليه الرسل أممهم * (أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) *، فكلهم اتفقوا على هذه الدعوة، وهي أول دعوة يدعون بها أممهم، الأمر بعبادة الله، والإخبار أنه المستحق لذلك، والنهي عن عبادة ما سواه، والإخبار ببطلان ذلك وفساده. ولهذا قال: * (أفلا تتقون) * ربكم، فتجتنبوا هذه الأوثان والأصنام. * (وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا) * أي: قال الرؤوساء الذين جمعوا بين الكفر والمعاندة، وإنكار البعث والجزاء، وأطغاهم ترفهم في الحياة الدنيا، معارضة لنبيهم، وتكذيبا، وتحذيرا منه: * (ما هذا إلا بشر مثلكم) * أي: من جنسكم * (يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون) *، فما الذي يفضله عليكم؟ فهلا كان ملكا، لا يأكل الطعام، ولا يشرب الشراب. * (ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون) * أي: إن تبعتموه وجعلتموه لكم رئيسا، وهو مثلكم إنكم لمسلوبو العقل، نادمون على ما فعلتم. وهذا من العجب، فإن الخسارة والندامة حقيقة، لمن لم يتابعه، ولم ينقد له. والجهل والسفه العظيم، لمن تكبر عن الانقياد لبشر، خصه الله بوحيه، وفضله برسالته، وابتلي بعبادة الشجر والحجر. وهذا نظير قولهم: * (قالوا أبشرا منا واحدا نتبعه، إنا إذا لفي ضلال وسعر * أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر) *، فلما أنكروا رسالته وردوها، أنكروا ما جاء به من البعث بعد الموت، والمجازاة على الأعمال فقالوا: * (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون) * أي: بعيد بعيد ما يعدكم به، من البعث، بعد أن تمزقتم، وكنتم ترابا وعظاما، فنظروا نظرا قاصرا، ورأوا هذا، بالنسبة إلى قدرهم غير ممكن، فقاسوا قدرة الخالق بقدرتهم. تعالى الله عن ذلك. فأنكروا قدرته على إحياء الموتى وعجزوه غاية التعجيز، ونسوا خلقهم أول مرة، وأن الذي أنشأهم من العدم، فإعادته لهم بعد البلى، أهون عليه وكلاهما هين لديه، فلم لا ينكرون أول خلقهم، ويكابرون المحسوسات، ويقولون: إننا، لم نزل موجودين، حتى يسلم لهم إنكارهم البعث، وينتقلوا معهم إلى الاحتجاج على إثبات وجود الخالق العظيم؟ وهنا دليل آخر، وهو: أن الذي أحيا الأرض بعد موتها، إن ذلك لمحيي الموتى، إنه على كل شيء قدير، وثم دليل آخر، وهو ما أجاب به المنكرين للبعث في قوله: * (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب، أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد) * فقال في جوابهم: * (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم) * أي: في البلى، * (وعندنا كتاب حفيظ) *. * (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا) * أي: يموت أناس، ويحيا أناس * (وما نحن بمبعوثين) *. * (إن هو إلا رجل به جنة) * فلهذا أتى بما أتى به، من توحيد الله،
(٥٥١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 546 547 548 549 550 551 552 553 554 555 556 ... » »»