تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٢٦
فأجابوا بغير حجة، جواب العاجز، الذي ليس بيده أدنى شبهة فقالوا: * (وجدنا آباءنا) * كذلك يفعلون، فسلكنا سبيلهم، واتبعناهم على عبادتها. ومن المعلوم أن فعل أحد من الخلق سوى الرسل، ليس بحجة، ولا تجوز به القدوة: خصوصا، في أصل الدين، وتوحيد رب العالمين، ولهذا قال لهم إبراهيم مضللا للجميع: * (لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين) * أي: ضلال بين واضح، وأي ضلال، أبلغ من ضلالهم في الشرك، وترك التوحيد؟ أي: فليس ما قلتم، يصلح للتمسك به، وقد اشتركتم وإياهم في الضلال الواضح، البين لكل أحد. * (قالوا) * على وجه الاستغراب لقوله، والاستفهام لما قال، وكيف بادأهم بتسفيههم، وتسفيه آبائهم: * (أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين) * أي: هذا القول الذي قلته، والذي جئتنا به، هل هو حق وجد؟ أم كلامك لنا، كلام لاعب مستهزىء، لا يدري ما يقول؟ وهذا الذي أرادوا. وإنما رددوا الكلام بين الأمرين، لأنهم نزلوه منزلة المتقرر المعلوم عند كل أحد، أن الكلام الذي جاء به إبراهيم، كلام سفيه لا يعقل ما يقول. فرد عليهم إبراهيم ردا يبين به وجه سفههم، وقلة عقولهم فقال: * (بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلك من الشاهدين) * فجمع لهم بين الدليل العقلي، والدليل السمعي. أما الدليل العقلي، فإنه قد علم كل أحد حتى هؤلاء الذين جادلهم إبراهيم، أن الله وحده، الخالق لجميع المخلوقات، من بني آدم، والملائكة، والجن، والبهائم، والسماوات، والأرض، المدبر لهن، بجميع أنواع التدبير، فيكون كل مخلوق مفطورا مدبرا متصرفا فيه، ودخل في ذلك، جميع ما عبد من دون الله. أفيليق عند من له أدنى مسكة من عقل وتمييز، أن يعبد مخلوقا متصرفا فيه، لا يملك نفعا، ولا ضرا، ولا موتا، ولا حياة، ولا نشورا، ويدع عبادة الخالق الرازق المدبر؟ أما الدليل السمعي: فهو المنقول عن الرسل، عليهم السلام، فإن ما جاؤوا به معصوم لا يغلط ولا يخبر بغير الحق، ومن أنواع هذا القسم شهادة أحد من الرسل على ذلك فلهذا قال إبراهيم: * (وأنا على ذلكم) * أي: أن الله وحده المعبود وأن عبادة ما سواه باطل * (من الشاهدين) * وأي شهادة بعد شهادة الله أعلى من شهادة الرسل؟ خصوصا أولي العزم منهم خصوصا خليل الرحمن. ولما بين أن أصنامهم ليس لها من التدبير شيء أراد أن يريهم بالفعل عجزها وعدم انتصارها وليكيد كيدا يحصل به إقرارهم بذلك فلهذا قال: * (وتالله لأكيدن أصنامكم) * أي: أكسرها على وجه الكيد * (بعد أن تولوا مدبرين) * عنها إلى عيد من أعيادهم، فلما تولوا مدبرين، ذهب إليها بخفية. * (فجعلهم جذاذا) * أي: كسرا وقطعا، وكانت مجموعة في بيت واحد، فكسرها كلها. * (إلا كبيرا لهم) * أي: إلا صنمهم الكبير، فإنه تركه لمقصد سيبينه. وتأمل هذا الاحتراز العجيب، فإن كل ممقوت عند الله، لا يطلق عليه ألفاظ التعظيم، إلا على وجه إضافته لأصحابه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كتب إلى ملوك الأرض المشركين يقول: (إلى عظيم الفرس) (إلى عظيم الروم) ونحو ذلك، ولم يقل (إلى العظيم). وهنا قال تعالى: * (إلا كبيرا لهم) * ولم يقل (كبيرا من أصنامهم). فهذا ينبغي التنبه له، والاحتراز من تعظيم ما حقره الله، إلا إذا أضيف إلى من عظمه. وقوله: * (لعلهم إليه يرجعون) * أي: ترك إبراهيم تكسير صنمهم هذا لأجل أن يرجعوا إليه، ويستملوا حجته، ويلتفتوا إليها، ولا يعرضوا عنها ولهذا قال في آخرها: * (فرجعوا إلى أنفسهم) *. فحين رأوا ما حل بأصنامهم من الإهانة والخزي * (قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين) * فرموا إبراهيم بالظلم الذي هم أولى به حيث كسرها ولم يدروا أن تكسيره لها من أفضل مناقبه ومن عدله وتوحيده، وإنما الظالم من اتخذها آلهة، وقد رأى ما يفعل بها * (قالوا سمعنا فتى يذكرهم) * أي: يعيبهم ويذمهم، ومن هذا شأنه لا بد أن يكون هو الذي كسرها أو أن بعضهم سمعه يذكر أنه سيكيدها * (يقال له إبراهيم) * فلما تحققوا أنه إبراهيم * (قالوا فأتوا به) * أي: بإبراهيم * (على أعين الناس) * أي: بمرأى منهم ومسمع * (لعلهم يشهدون) * أي: يحضرون ما يصنع بمن كسر آلهتهم، وهذا الذي أراد إبراهيم وقصد أن يكون بيان الحق بمشهد من الناس ليشاهدوا الحق وتقوم عليهم الحجة، كما قال موسى حين واعد فرعون * (موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) *. فحين حضر الناس وأحضر إبراهيم قالوا له: * (أأنت فعلت هذا) * أي: التكسير * (بآلهتنا يا إبراهيم) *؟ وهذا استفهام تقرير، أي: فما الذي جرأك، وما الذي أوجب لك الإقدام على هذا الأمر؟ فقال إبراهيم والناس مشاهدون * (بل فعله كبيرهم هذا) * أي: كسرها غضبا عليها، لما عبدت معه، وأراد أن تكون العبادة منكم لصنمكم الكبير وحده. وهذا الكلام من إبراهيم، المقصد منه إلزام الخصم وإقامة الحجة عليه. ولهذا قال: * (فاسألوهم إن كانوا ينطقون) *، وأراد: الأصنام المكسرة اسألوها لم كسرت؟ والصنم الذي لم يكسر، اسألوه لأي شيء كسرها، إن كان عندهم نطق، فسيجيبونكم إلى ذلك، وأنا وأنتم، وكل أحد يدري أنها لا تنطق ولا تتكلم، ولا تنفع ولا تضر، بل ولا تنصر نفسها ممن يريدها بأذى. * (فرجعوا إلى أنفسهم) * أي: ثابت إليهم عقولهم، ورجعت إليهم أحلامهم، وعلموا أنهم ضالون في عبادتها، وأقروا على أنفسهم بالظلم والشرك. * (فقالوا إنكم أنتم الظالمون) * فحصل بذلك المقصود، ولزمتهم
(٥٢٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 521 522 523 524 525 526 527 528 529 530 531 ... » »»