الحجة بإقرارهم أن ما هم عليه باطل وأن فعلهم كفر وظلم. ولكن لم يستمروا على هذه الحالة، بل * (نكسوا على رؤوسهم) * أي: انقلب الأمر عليهم، وانتكست عقولهم وضلت أحلامهم، فقالوا لإبراهيم: * (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) * فكيف تتهكم بنا وتستهزىء بنا وتأمرنا أن نسألها وأنت تعلم أنها لا تنطق؟ فقال إبراهيم موبخا لهم ومعلنا بشركهم على رؤوس الأشهاد، ومبينا عدم استحقاق آلهتهم للعبادة: * (أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم) * فلا نفع ولا دفع. * (أف لكم ولما تعبدون من دون الله) * أي: ما أضلكم وأخسر صفقتكم، وما أخسكم، أنتم وما عبدتم من دون الله. * (أفلا تعقلون) * لتعرفوا هذه الحال، فلما عدمتم العقل، وارتكبتم الجهل والضلال على بصيرة، صارت البهائم، أحسن حالا منكم. فحينئذ لما أفحمهم، ولم يبينوا حجة، استعملوا قوتهم في معاقبته، و * (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين) * أي: اقتلوه أشنع القتلات، بالإحراق، غضبا لآلهتكم، ونصرة لها. فتعسا لهم ثم تعسا، حيث عبدوا من أقروا أنه يحتاج إلى نصرهم، واتخذوه إلها. فانتصر الله لخليله لما ألقوه في النار وقال لها: * (كوني بردا وسلاما على إبراهيم) * فكانت عليه بردا وسلاما، لم ينله فيها أذى، ولا أحس بمكروه. * (وأرادوا به كيدا) * حيث عزموا على إحراقه. * (فجعلناهم الأخسرين) * أي: في الدنيا والآخرة، كما جعل الله خليله وأتباعه، هم الرابحين المفلحين. * (ونجيناه ولوطا) * وذلك أنه لم يؤمن به من قومه إلا لوط عليه السلام قيل: إنه ابن أخيه، فنجاه الله، وهاجر * (إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) * أي: الشام، فغادر قومه في (بابل) من أرض العراق. * (وقال إني ذاهب إلى ربي) * إنه هو العزيز الحكيم، ومن بركة الشام، أن كثيرا من الأنبياء، كانوا فيها، وأن الله اختارها، مهاجرا لخليله، وفيها أحد بيوته الثلاثة المقدسة، وهو بيت المقدس. * (ووهبنا له) * حين اعتزل قومه * (إسحاق ويعقوب) * ابن إسحاق * (نافلة) * بعدما كبر، وكانت زوجته عاقرا، فبشرته الملائكة بإسحق. * (ومن وراء إسحاق يعقوب) * ويعقوب، هو إسرائيل، الذي كانت منه الأمة العظيمة، وإسماعيل بن إبراهيم، الذي كانت منه الأمة الفاضلة العربية، ومن ذريته، سيد الأولين والآخرين. * (وكلا) * من إبراهيم وإسحق ويعقوب * (جعلنا صالحين) * أي: قائمين بحقوقه، وحقوق عباده، ومن صلاحهم، أنه جعلهم أئمة يهدون بأمره، وهذا من أكبر نعم الله على عبده أن يكون إماما يهتدي به المهتدون، ويمشي خلفه السالكون، وذلك لما صبروا، وكانوا بآيات الله يوقنون. وقوله: * (يهدون بأمرنا) * أي: يهدون الناس بديننا، لا يأمرون بأهواء أنفسهم، بل بأمر الله ودينه، واتباع مرضاته، ولا يكون العبد إماما حتى يدعو إلى أمر الله. * (وأوحينا إليهم فعل الخيرات) * يفعلونها ويدعون الناس إليها، وهذا شامل للخيرات كلها، من حقوق الله، وحقوق العباد. * (وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) * هذا من باب عطف الخاص على العام، لشرف هاتين العبادتين وفضلهما، ولأن من كملهما كما أمر، كان قائما بدينه، ومن ضيعهما، كان لما سواهما أضيع، ولأن الصلاة أفضل الأعمال، التي فيها حقه، والزكاة أفضل الأعمال، التي فيها الإحسان لخلقه. * (وكان لنا) * أي: لا لغيرنا * (عابدين) * أي: مديمين على العبادات القلبية والقولية والبدنية في أكثر أوقاتهم، فاستحقوا أن تكون العبادة وصفهم، فاتصفوا بما أمر الله به الخلق، وخلقهم لأجله. * (ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين) * هذا ثناء من الله على رسوله (لوط) عليه السلام بالعلم الشرعي، والحكم بين الناس، بالصواب والسداد، وأن الله أرسله إلى قومه، يدعوهم إلى عبادة الله، وينهاهم عما هم عليه من الفواحش، فلبث يدعوهم، فلم يستجيبوا له، فقلب الله عليهم ديارهم وعذبهم عن آخرهم لأنهم * (كانوا قوم سوء فاسقين) *. كذبوا الداعي، وتوعدوه بالإخراج، ونجى الله لوطا وأهله، فأمره أن يسري بهم ليلا، ليبعدوا عن القرية، فسروا ونجوا، وذلك من فضل الله عليهم ومنته. * (وأدخلناه في رحمتنا) * التي من دخلها، كان من الآمنين، من جميع المخاوف، النائلين كل خير وسعادة، وبر، وسرور، وثناء، وذلك لأنه من الصالحين، الذين صلحت أعمالهم، وزكت أحوالهم، وأصلح الله فاسدهم. والصلاح، هو السبب لدخول العبد برحمة الله، كما أن الفساد، سبب لحرمانه الرحمة والخير، وأعظم الناس صلاحا، الأنبياء عليهم السلام ولهذا يصفهم بالصلاح، وقال سليمان عليه السلام: * (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) *. * (ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين) * أي: واذكر عبدنا ورسولنا، نوحا عليه السلام، مثنيا مادحا، حين أرسله الله إلى قومه، فلبث فيهم ألف سنة، إلا خمسين عاما، يدعوهم إلى عبادة الله، وينهاهم عن الشرك به، ويبدي فيهم ويعيد، ويدعوهم سرا وجهارا، وليلا ونهارا. فلما رآهم لا ينجع فيهم الوعظ، ولا يفيد لديهم الزجر، نادى ربه وقال: * (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم
(٥٢٧)