تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥١٩
يعرفه. وهو أكبر الآيات المستمرة، الدالة على صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وصدقه، وهو كاف شاف. فمن طلب دليلا غيره، أو اقترح آية من الآيات سواه، فهو جاهل ظالم مشبه لهؤلاء المعاندين الذين كذبوه، وطلبوا من الآيات الاقتراحية، ما هو أضر شيء عليهم، وليس لهم فيها مصلحة لأنهم إن كان قصدهم معرفة الحق إذا تبين دليله، فقد تبين دليله بدونها، وإن كان قصدهم التعجيز وإقامة العذر لأنفسهم، إن لم يأت بما طلبوا فإنهم بهذه الحالة على فرض إتيان ما طلبوا من الآيات لا يؤمنون قطعا، فلو جاءتهم كل آية، لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم. ولهذا قال الله عنهم: * (فليأتنا بآية كما أرسل الأولون) * أي: كناقة صالح، وعصا موسى، ونحو ذلك. قال الله: * (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها) * أي: بهذه الآيات المقترحة، وإنما سنته تقتضي أن من طلبها، ثم حصلت له لم يأمن أن يعاجله بالعقوبة. فالأولون ما آمنوا بها أفيؤمن هؤلاء بها؟ ما الذي فضلهم على أولئك وما الخير الذي فيهم، يقتضي الإيمان عند وجودها؟ وهذا الاستفهام، بمعنى النفي، أي: لا يكون ذلك منهم أبدا. * (ومآ أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون * وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين * ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشآء وأهلكنا المسرفين) * هذا جواب لشبه المكذبين للرسول القائلين: هلا كان ملكا، لا يحتاج إلى طعام وشراب، وتصرف في الأسواق؟ وهلا كان خالدا؟ فإذا لم يكن كذلك، دل على أنه ليس برسول. وهذه الشبه ما زالت في قلوب المكذبين للرسل، تشابهوا في الكفر، فتشابهت أقوالهم، فأجاب تعالى عن هذه الشبه لهؤلاء المكذبين للرسول، المقرين بإثبات الرسل قبله، ولو لم يكن إلا إبراهيم عليه السلام، الذي قد أقر بنبوته جميع الطوائف. والمشركون، يزعمون أنهم على دينه وملته بأن الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، كلهم من البشر، الذين يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، وتطرأ عليهم العوارض البشرية، من الموت وغيره، وأن الله أرسلهم إلى قومهم وأممهم، فصدقهم من صدقهم، وكذبهم من كذبهم، وأن الله صدقهم ما وعدهم به من النجاة، والسعادة لهم، ولأتباعهم، وأهلك المسرفين المكذبين لهم. فما بال محمد صلى الله عليه وسلم، تقام الشبه الباطلة على إنكار رسالته وهي موجودة في إخوانه المرسلين، الذين يقر بهم المكذبون لمحمد؟ فهذا إلزام لهم، في غاية الوضوح، وأنهم إن أقروا برسول من البشر، ولن يقروا برسول من غير البشر، فإن شبههم باطلة، قد أبطلوها بإقرارهم بفسادها، وتناقضهم بها، فلو قدر انتقالهم هذا إلى إنكار نبوة البشر رأسا، وأنه لا يكون نبي إن لم يكن ملكا مخلدا، لا يأكل الطعام، فقد أجاب الله عن هذه الشبهة بقوله: * (وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون) *. وأن البشر لا طاقة لهم بتلقي الوحي من الملائكة * (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) *، فإن حصل معكم شك وعدم علم بحالة الرسل المتقدمين * (فاسألوا أهل الذكر) * من الكتب السالفة، كأهل التوراة والإنجيل، يخبروكم بما عندهم من العلم، وأنهم كلهم بشر من جنس المرسل إليهم. وهذه الآية وإن كان سببها خاصا بالسؤال عن حالة الرسل المتقدمين من أهل الذكر، وهم أهل العلم، فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين، أصوله وفروعه، إذا لم يكن عند الإنسان علم منها، أن يسأل من يعلمها. ففيه الأمر بالتعلم والسؤال لأهل العلم، ولم يؤمر بسؤالهم، إلا لأنه يجب عليهم التعليم والإجابة عما علموه. وفي تخصيص السؤال بأهل الذكر والعلم، نهى عن سؤال المعروف بالجهل، وعدم العلم، ونهى له أن يتصدى لذلك، وفي هذه الآية، دليل على أن النساء ليس منهن نبية، لا مريم ولا غيرها، لقوله: * (إلا رجالا) *. * (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) * أي: لقد أنزلنا إليكم أيها المرسل إليهم، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب كتابا جليلا، وقرآنا مبينا * (فيه ذكركم) * أي: شرفكم وفخركم، وارتفاعكم، إن تذكرتم به، ما فيه من الأخبار الصادقة، فاعتقدتموها، وامتثلتم ما فيه من الأوامر، واجتنبتم ما فيه من النواهي، وارتفع قدركم، وعظم أمركم. * (أفلا تعقلون) * ما ينفعكم وما يضركم؟ كيف لا تعملون على ما فيه ذكركم، وشرفكم في الدنيا والآخرة، فلو كان لكم عقل، لسلكتم، هذا
(٥١٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 514 515 516 517 518 519 520 521 522 523 524 ... » »»