من بعده، واشتكى أن امرأته عاقرا، أي: ليست تلد أصلا، وأنه قد بلغ من الكبر عتيا، أي: عمرا يندر معه وجود الشهوة والولد. * (فهب لي من لدنك وليا) * وهذه الولاية، ولاية الدين، وميراث النبوة والعلم والعمل. ولهذا قال: * (يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا) * أي: عبدا صالحا ترضاه، وتحببه إلى عبادك، والحاصل أنه سأل الله ولدا، ذكرا، صالحا، يبقى بعد موته، ويكون وليا من بعده، ويكون نبيا مرضيا عند الله وعند خلقه، وهذا أفضل ما يكون من الأولاد، ومن رحمة الله بعبده، أن يرزقه ولدا صالحا، جامعا لمكارم الأخلاق، ومحامد الشيم. * (يزكريآ إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا * قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا * قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا * قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا * فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) * فرحمه ربه، واستجاب دعوته فقال: * (يا زكريا) * إلى * (وعشيا) *، أي: بشره الله تعالى على يد الملائكة ب (يحيى) وسماه الله له (يحيى)، وكان اسما موافقا لمسماه: يحيا حياة حسية، فتتم به المنة، ويحيا حياة معنوية، وهي حياة القلب والروح، بالوحي والعلم والدين. * (لم نجعل له من قبل سميا) * أي: لم يسم هذا الاسم قبله أحد، ويحتمل أن المعنى: لم نجعل له من قبل مثيلا ومساميا، فيكون، بشارة بكماله، واتصافه بالصفات الحميدة، وأنه فاق من قبله، ولكن على هذا الاحتمال هذا العموم، لا بد أن يكون مخصوصا بإبراهيم، وموسى، ونوح عليهم الصلاة والسلام، ونحوهم، ممن هو أفضل من يحيى قطعا، فحينئذ لما جاءته البشارة بهذا المولود، الذي طلبه، استغرب وتعجب وقال: * (رب أنى يكون لي غلام) * والحال أن المانع من وجود الولد، موجود بي وبزوجتي؟ وكأنه وقت دعائه، لم يستحضر هذا المانع، لقوة الوارد في قلبه، وشدة الحرص العظيم على الولد. وفي هذه الحال، حين قبلت دعوته، تعجب من ذلك، فأجابه الله بقوله: * (كذلك قال ربك هو علي هين) * أي: الأمر مستغرب في العادة، وفي سنة الله في الخليقة، ولكن قدرة الله تعالى صالحة لإيجاده بدون أسبابها فذلك هين عليه، ليس بأصعب من إيجاده قبل، ولم يكن شيئا. * (قال رب اجعل لي آية) * أي: يطمئن بها قلبي، وليس هذا شكا في خبر الله، وإنما هو، كما قال الخليل عليه السلام * (رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) * فطلب زيادة العلم، والوصول إلى عين اليقين بعد علم اليقين، فأجابه الله إلى طلبته، رحمة به. * (قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) * وفي الآية الأخرى * (ثلاثة أيام إلا رمزا) *، والمعنى واحد، لأنه تارة يعبر بالليالي، وتارة بالأيام ومؤداها واحد، وهذا من الآيات العجيبة، فإن منعه من الكلام مدة ثلاثة أيام، وعجزه عنه من غير خرس ولا آفة، بل كان سويا، لا نقص فيه من الأدلة على قدرة الله الخارقة للعوائد ومع هذا، ممنوع من الكلام، الذي يتعلق بالآدميين وخطابهم، وأما التسبيح، والذكر ونحوه، فغير ممنوع منه، ولهذا قال في الآية الأخرى: * (واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار) *، فاطمأن قلبه، واستبشر بهذه البشارة العظيمة، وامتثل لأمر الله له، بالشكر، بعبادته وذكره، فعكف في محرابه، وخرج على قومه منه، فأوحى إليهم، أي: بالإشارة والرمز * (أن سبحوا بكرة وعشيا) * لأن البشارة ب (يحيى) في حق الجميع، مصلحة دينية. * (ييحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا * وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا * وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا * وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) * دل الكلام السابق، على ولادة يحيى، وشبابه، وتربيته، فلما وصل إلى حالة يفهم فيها الخطاب، أمره الله أن يأخذ الكتاب بقوة، أي: بجد واجتهاد، وذلك بالاجتهاد في حفظ ألفاظه، وفهم معانيه، والعمل بأوامره ونواهيه، هذا تمام أخذ الكتاب بقوة، فامتثل أمر ربه، وأقبل على الكتاب، فحفظه وفهمه، وجعل الله فيه من الذكاء والفطنة، ما لا يوجد في غيره ولهذا قال: * (وآتيناه الحكم صبيا) *. * (و) * آتيناه أيضا * ( حنانا من لدنا) * أي: رحمة ورأفة، تيسرت بها أموره، وصلحت بها أحواله، واستقامت بها أفعاله. * (وزكاة) * أي: طهارة من الآفات والذنوب، فطهر قلبه، وتزكى عقله، وذلك يتضمن زوال الأوصاف المذمومة، والأخلاق الرديئة، وزيادة الأخلاق الحسنة، والأوصاف المحمودة، ولهذا قال: * (وكان تقيا) * أي: فاعلا للمأمور، تاركا للمحظور، ومن كان مؤمنا تقيا، كان لله وليا، وكان من أهل الجنة، التي أعدت للمتقين، وحصل له من الثواب الدنيوي والأخروي، ما رتبه الله على التقوى. * (و) * كان أيضا * (برا بوالديه) * أي:
(٤٩٠)