وأشجار، وأنهار، وزروع، وثمار، ومناظر بهيجة، ورياض أنيقة، وأصوات شجية، وصور مليحة، وذهب وفضة، وخيل وإبل ونحوها، الجميع جعله الله زينة لهذه الدار، فتنة واختبارا. * (لنبلوهم أيهم أحسن عملا) * أي: أخلصه وأصوبه، ومع ذلك سيجعل الله جميع هذه المذكورات، فانية مضمحلة، وزائلة منقضية، وستعود الأرض، صعيدا جرزا قد ذهبت لذاتها، وانقطعت أنهارها، واندرست آثارها، وزال نعيمها، وهذه حقيقة الدنيا، قد جلاها الله لنا كأنها رأي عين، وحذرنا من الاغترار بها، ورغبنا في دار يدوم نعيمها، ويسعد مقيمها، كل ذلك رحمة بنا. فاغتر بزخرف الدنيا وزينتها، من نظر إلى ظاهر الدنيا، دون باطنها، فصحبوا الدنيا، صحبة البهائم، وتمتعوا بها تمتع السولئم، لا ينظرون في حق ربهم، ولا يهتمون لمعرفته، بل همهم تناول الشهوات، من أي وجه حصلت، وعلى أي حالة اتفقت، فهؤلاء إذا حضر أحدهم الموت، قلق لخراب ذاته، وفوات لذاته، لا لما قدمت يداه، من التفريط والسيئات. وأما من نظر إلى باطن الدنيا، وعلم المقصود منها ومنه، فإنه يتناول منها، ما يستعين به على ما خلق له، وانتهز الفرصة في عمره الشريف، فجعل الدنيا منزل عبور، لا محل حبور، وشقة سفر، لا منزل إقامة، فبذل جهده في معرفة ربه، وتنفيذ أوامره، وإحسان العمل، فهذا بأحسن المنازل عند الله، وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم، وسرور وتكريم، فنظر إلى باطن الدنيا، حين نظر المغتر إلى ظاهرها، وعمل لآخرته، حين علم البطال لدنياه، فشتان ما بين الفريقين، وما أبعد الفرق بين الطائفتين!! * (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا) * وهذا الاستفهام بمعنى النفي، والنهي. أي: لا تظن أن قصة أصحاب الكهف، وما جرى لهم، غريبة على آيات الله، وبديعة في حكمته، وأنه لا نظير لها، ولا مجانس لها، بل لله تعالى من الآيات العجيبة الغريبة، ما هو كثير، من جنس آياته في أصحاب الكهف، أعظم منها، فلم يزل الله يري عباده من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم، ما يتبين به الحق من الباطل والهدى من الضلال، وليس المراد بهذا النفي أن تكون قصة أصاحب الكهف من العجائب، بل هي من آيات الله العجيبة. وإنما المراد، أن جنسها كثير جدا، فالوقوف معها وحدها، في مقام العجب والاستغراب، نقص في العلم والعقل، بل وظيفة المؤمن، التفكر بجميع آيات الله، التي دعا الله العباد إلى التفكير فيها، فإنها مفتاح الإيمان، وطريق العلم والإيقان. وإضافتهم إلى الكهف، الذي هو الغار في الجبل والرقيم، أي: الكتاب الذي قد رقمت فيه أسماؤهم وقصتهم، لملازمتهم له دهرا طويلا. ثم ذكر قصتهم مجملة، وفصلها بعد ذلك فقال: * (إذ أوى الفتية) * أي: الشباب، * (إلى الكهف) * يريدون بذلك، التحصن والتحرز، من فتنة قومهم ما لهم. * (فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة) * أي: تثبتنا بها وتحفظنا من الشر وتوفقنا للخير * (وهيئ لنا من أمرنا رشدا) * أي: يسر لنا كل سبب موصل إلى الرشد، وأصلح لنا أمر ديننا ودنيانا، فجمعوا بين السعي والفرار من الفتنة، إلى محل يمكن الاستخفاء فيه، وبين تضرعهم وسؤالهم لله تيسير أمورهم، وعدم اتكالهم على أنفسهم، وعلى الخلق. فلذلك استجاب الله دعاءهم، وقيض لهم، ما لم يكن في حسابهم قال: * (فضربنا على آذانهم في الكهف) * أي: أنمناهم * (سنين عددا) * وهي: ثلاثمائة سنة، وتسع سنين، وفي النوم المذكور حفظ لقلوبهم من الاضطراب والخوف، وحفظ لهم من قومهم. * (ثم بعثناهم) * أي: من نومهم * (لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا) * أي: لنعلم أيهم أحصى لمقدار مدتهم، كما قال تعالى: * (وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم) * الآية، وفي العلم بمقدار لبثهم، ضبط للحساب، ومعرفة لكمال قدرة الله تعالى، وحكمته، ورحمته. فلو استمروا على نومهم، لم يحصل الاطلاع على شيء من ذلك، من قصتهم. * (نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى * وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إل ها لقد قلنا إذا شططا) * هذا شروع في تفصيل قصتهم، وأن الله يقصها على نبيه بالحق والصدق، الذي ما فيه شك ولا شبهة بوجه من الوجوه. * (إنهم فتية آمنوا بربهم) * وهذا من جموع القلة، يدل ذلك على أنهم دون العشرة، * (آمنوا) * بالله وحده لا شريك له من دون قومهم، فشكر الله لهم إيمانهم، فزادهم هدى، أي: بسبب أصل اهتدائهم إلى الإيمان، زادهم الله من الهدى، الذي هو العلم النافع، والعمل الصالح، كما قال تعالى: * (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) *.
(٤٧١)